ثقافةصحيفة البعث

اللحظات الأكثر توهجاً في حرب تشرين التحريرية

لم تكن حرب تشرين التحريرية مجرّد صفحة وطويت من التاريخ السوري الحديث، بل كانت زاداً لشعب آمن بالله وبالوطن، وكانت درساً في التلاحم بين أبناء الشعب الواحد على مختلف أطيافه.‏ وعند تهديد أمن الوطن واستقراره، ماذا بوسع الأديب والشاعر والكاتب والملحن والمطرب أن يفعل سوى التقاط اللحظات الأكثر توهجاً في ضمير الأمة وترجمتها كلمة ولحناً وصوتاً، حيث يؤلف هؤلاء سيمفونية رائعة في حب الوطن تطير عبر الفضاءات دون إذن مرور أو جوازات، وتستمر في طيرانها رغم كثافة النيران، ولا تمنع من الهبوط في أي مكان، وتبقى عبر الدهور والأزمان تؤرخ اللحظة التاريخية التي يمر بها الوطن وتبقى وصية يحفظها الأبناء ويرددها الأحفاد، فكانت الأغنية الوطنية، في السبعينيات، لها تأثير الرصاصة في المعركة، ولعبت دورها في تعزيز الوجدان الشعبي والإحساس بالتمازج مع الأرض، كما جسدت القيم والمعاني التي طالما تمسكنا بها على مر التاريخ، فالفن باختلاف أشكاله يؤلّف وحدة متكاملة لتكوّن رسالة تصل إلى القلب.

أدب 

كانت الحروب الكبرى ملهمة لأعمال أدبية خالدة أثرت في الأدب العالمي كله، وذلك لأن الأدب يجد في تجربة الحروب، وما تفرزه من مسارات جديدة في التجربة الإنسانية، ما يثري ويعمّق آفاقها، وفي الذكرى التاسعة والأربعين لحرب تشرين التحريرية نقف عند قراءة بعض الأدباء لهذه الحرب، كيف كتبت أقلامهم أحداثها وتفاصيلها.

لربما أمضى حنا مينة وقتاً طويلاً يبحث ويقرأ ويقابل شهود عيان قاتلوا في تلك الحرب حتى يكتب رواية ذات تصوير شاهق دقيق ومفصل لحرب لم يحارب فيها الرجل بنفسه، ولكنه وفّق في نقل تفاصيل كثيرة للحرب، تحدث عن مشاعر مقاتليها وتوقهم للتحرر من الهزيمة وروحهم المعنوية العالية، وتحدث عن لحظات خوفهم ولحظات إقدامهم، لحظات صحوتهم ولحظات أحلامهم الغارقة في تفاصيل حياتهم الإنسانية، وصف معارك البحر والجو ومعارك الدبابات والمشاة، استطاع أسر القارئ ليظلّ شغوفاً أبداً للمقطع القادم مهما شعر بتباطؤ في بعض الأحداث.

في روايته “المرصد”، الموقع الذي بنته “إسرائيل” على قمة جبل الشيخ، استطاع الكاتب أن ينقل مشاعر جيش وبلد بأسلوب مشوّق وجميل جداً، فجاءت محكمة بنسيجها الفني والإنساني والوطني والقومي العربي والتكتيك العسكري كخطة محكمة، اغتنت الرواية بمشاهد إنسانية بالغة التأثير متميزة وصفاً وعمقاً، حيث يودع المحارب الحيّ زميل السلاح الذي يستشهد، ومشاهد الالتحام، ويختتم مينا روايته على لسان أحد أبطالها: “اليوم تبدلت الرؤى.. وأشرقت الوجوه.. تشرين يا تشرين… كيف لو اكتملت فيك الأشياء؟.. وما زلنا نردّد إلى اليوم.. كيف لو اكتملت فيك الأشياء”.

أغان

في حرب تشرين التحريرية، دخلت الأغنية القلوب قبل الآذان دونما استئذان حاملة الفرح الحقيقي للناس فكانت كنوع من العزف المنفرد على وتر قلب غدا الوطن، سلسلة طويلة تكاد لا تنتهي من الأغاني الوطنية التي عاشت في وجدان الشعب السوري لتكون سنداً معنوياً حقيقياً في الأزمات التي عصفت ومازالت تعصف بوطننا ومحركاً عاطفياً فعالاً وداعماً لقوة الشعب في الدفاع عن وطنه.

في الواقع، لقد كانت الأغنية الوطنية انعكاسا حقيقيا للوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي للجماهير الشعبية، وتزيّنت أيام زمان بأسماء الملحنين والمطربين ذوي الأصوات التي لا تنسى ولا تمحى من الذاكرة، وكلّ كان له بصمته فقد لمعت أسماء مهمة: كان لشاكر بريخان باع طويل في تلحين الأغنية الوطنية حيث كتب ولحن أغنية “نحن النسور” بعد حرب تشرين التحريرية الذي أصبح فيما بعد نشيداً للكلية الجوية، وغناها الفنان رفيق سبيعي بشخصية أبو صياح، وفي أنغام فيروز التي اعتدنا سماعها كان لأغنية “خطة قدمكم” الحافز الأقوى خلال عام 1973 حيث اعتمدت الإذاعات البث لتكون مصدر قوة لأبطال الجيش العربي في حرب تشرين التحريرية، و”صباح الخير يا وطناً” أغنية وطنية شعبية كتبها الشاعر اليمني عباس الديلمي ولحنها الملحن سهيل عرفة، وأول من قام بغنائها المطربان السوريان أمل عرفة وفهد يكن كانت تذاع في الكثير من المناسبات الوطنية.

وكتب الشاعر عبد الرحمن الأبنودى أغنية ”صباح الخير يا سينا” عن النصر العظيم ولحنها الموسيقار كمال الطويل، وسجلها عبد الحليم حافظ برغم مرضه الشديد في ذلك الوقت، وشارك العندليب أيضاً في الاحتفال بانتصارات أكتوبر بأغنية “لفي البلاد يا صبية”، التي كتبها محسن الخياط، ولحنها محمد الموجي، ولا ننسى الملحن الكبير بليغ حمدي الذي لحن للمطربة شادية أغنية “يا حبيبتي يا مصر”.

الشعر  

ولأن الشعر نبض الحياة ولون الناس، فقد استطاع الشعراء التقاط اللحظة الفارقة بعد انتصارات حرب تشرين التحريرية وحوّلوا هذا الانتصار إلى شعر يعبّر عن فرحة النصر والحماسة، فكتب نزار قباني نثراً أقرب ما يكون إلى الشعر والصورة الشعرية: قبل السادس من تشرين 1973 كانت صورتي مشوشة وغائمة وقبيحة، كانت عيناي مغارتين تعشش فيهما الوطاويط والعناكب، وكان فمي خليجاً مليئاً بحطام المراكب الغارقة، وكانت علامتي الغارقة المسجلة في جواز سفري هي أنني أحمل على جبيني ندبة عميقة اسمها حزيران، أما عمري في جواز سفري القديم.. فقد كان مشطوباً لأن العالم كان يعتبرني بلا عمر.. واليوم (6 تشرين 1973)، يبدأ عمري.. واليوم فقط ذهبت إلى مديرية الأحوال المدنية، وأريتهم صك ولادتي التي حدثت في مستشفى عسكري نقال.. يتحرك مع المقاتلين في سيناء والجولان، فاعتبروني طفلاً شرعياً، وسجلوني في دفتر مواليد الوطن، لا تستغربوا كلامي، فأنا ولدت تحت الطوفان، والجسور العائمة التي علقها مهندسو الجيش المصري على كتف الضفة الشرقية وخرجت من أسنان المجنزرات السورية التي كانت تفترش الصخور في مرتفعات الجولان، اعترف لكم بأن ولادتي كانت صعبة.

وكان الشاعر نديم محمد شاهداً على انتصارات حرب تشرين التحريرية وهو في طرطوس حيث يصف سقوط طائرة العدو في البحر، وذلك بعد إصابتها بصاروخ فتغمره الفرحة، وهو الوطني والعروبي الأصيل يقول:

شيطانة وحش يهيج زنبرها خوف الرياح فما تريد هبوبا    ترقى وترقى مارداً متشهقاً تطوي جوانحها الرحاب وثوبا

فهوت مقطعة الوتين مهيضة وانحط منها ربتها مكبوبا       لأني رأيت النار تأكل قلبها والبحر يشربها دماً ولهيبا