مجلة البعث الأسبوعية

نهاية الأرب في الوصول إلى مدينة حلب

فيصل خرتش

أنا الآن في معبر بستان القصر، قطعته إلى الجهة الأخرى، لم أهتم برصاص القناص الذي في عالي المكان، ومشيت عبر البراميل المتراكمة فوق بعضها، وأكياس التراب الملقاة عليها، ثمة بعض الملتحين الذين يتوزعون المكان، كانوا يرتدون ثياب داعش، هم يصلتون البواريد على مدخل المعبر ويبتسمون، كانت حلب محاصرة من كل أطرافها إلا من هذا الطريق الذي لا يسمح إلا بعبور رجل واحد أو امرأة أو طفل، كانت حلب تفتقر إلى المواد التموينية والماء والكهرباء، لا يوجد شيء يمكن شراؤه، وكنا نأتي كلَ يوم إلى المعبر فنتبضع ما يلزمنا ونعود تحت رصاص القنص، وقد شاهدت إحدى عشر ضحية أمامي، سقطت وكان الدم يخرج من الرأس أو من الرقبة، وتم نقلها إلى المستوصف، وقد حصلت معي حادثة كادت تودي بحياتي، عندما قلت مرة لأحد هؤلاء الذي كان يتمنطق ببارودة ومسدس: ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، فانهال علي ضرباَ وهو يصرخ: وأنتم ماذا فعلتم لسكان حمص، ألم تحاصروهم، ألم تجوعوهم، قل لي، وجاء رفقاؤه وخلصوني من بين يديه، ومشيت مكسور الخاطر إلى ممر المعبر، وفجأة سمعنا صوت طلقة، كانت بجانبي امرأة أربعينية، وعندما سمعت الصوت صرخت، قلت لها: إنهم يخوفوننا بإطلاق الرصاص، هم لا يستهدفوننا، إنهم يوجهونه إلى السماء، قالت المرأة بصوت مذعور: لقد أصابوني، انظر يدي، فنظرت إلى يدها ورأيت الإصبعين اللذين في وسط اليد اليمنى قد تهدَلا والدم يسيل منهما، حين ذلك، صرخت إسعاف، وأمسكت بيد المرأة وانطلقت بها والدم يشرَ على ثيابي، يومها لعنت المعبر والأولاد والمواد التي سوف اشتريها، وعدت إلى البيت، وأعطيتهن الثياب التي امتلأت بالدماء وشرحت لهن ما جرى.

الآن ركبت السيارة الميكرو وأقلعت بي إلى الرقة، فلا يوجد سوى هذا الطريق غير محاصر، ووصلتها بعد حوالي الساعتين، كانت ابنتي تعمل في جامعة الفرات، وأوراق التقاعد لزوجتي في الحقيبة، سأوصلها إلى وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في الطريق إلى شارع الثورة في دمشق، وأضعها هناك وأعود.

وصلت إلى مدينة الَرقة، كانت الشمس هذا اليوم فاترة، وقد استقبلتني ابنتي بالترحاب، وحين مدت مائدة الطعام تذكَرت أنَ الخبز ينقصها، فأسرعت ترتدي معطفها، قلت لها: انا من سيجلب الخبز، ونزلت أتفرج على الرَقة.

مشيت في شوارعها العريضة ثمَ اتَجهت إلى المخبز، واشتريت الخبز، توجهت إلى مقصف الرشيد، ثمَ إلى ساحة الساعة ورأيت الناس مجتمعين حولها، اقتربت كي أرى، ودنوت أكثر، فهالني المنظر، كان هناك ثلاثة جثث ملقاة أسفل صرح الساعة، مقطوعة الرؤوس، وعلى صدرها مكتوب بأنَ عقاب الله الذي نفَذ فيها كان على يد الدولة الإسلامية، وفوق كانت الرؤوس نائمة مطمئنة مستسلمة لقضاء أولي الأمر، بعد ذلك قرع جرس مدرسة الرشيد واندفع التلاميذ من الباب إلى ساحة الساعة، وهم يصرخون هيه، وراح بعضهم يخرج الهاتف ويصوَر المشهد.

جلست متعباَ إلى المائدة، سألتني ابنتي عما بي، فشرحت لها عما رأيت، فقالت: إنهم يقومون بعملية القتل في كلَ يوم جمعة، ويبقون الجثث كل الأسبوع، انتظرت حتى منتصف الليل إلا قليلاَ، وأطلقت أروم البولمان إلى دمشق.

انطلق بنا البولمان يغزَ في ليل داكن، كنت المح على يسار الطريق شعلات نار، سألت الذي بجانبي عنها، فقال: إنهم يستخرجون البترول، فصمتُ وهو الآخر صمت، لقد مشينا قرابة الساعة، وإذ بالباص يقف على يمين الطريق إنه حاجز للدولة الإسلامية، صعد شاب، يرتدي ثياب الدولة الإسلامية، وله ذقن طويلة، يحمل بارودة على كتفه ويتجند بمسدس والرصاص يتصالب على صدره، تكلم بلغة فصحى، حيَانا، فرددنا التحية بأحسن منها، وشرح لنا كيف قوَى إسلامه، إنَ (الخرقة) هي السبب، والخرقة هي علم الخلافة، ثمَ طالبنا أن نمدَ يدينا على طولهما وأخرج مقرضة طويلة وجعل يقصَ أظافر لمن كانت أظافرهم طويلة، إنهم يتشبهون بالنساء، وألقى علينا خطبة طويلة عن أهمية قصَ الأظافر، وضرورتها بالنسبة للمسلمين، بعد ذلك سلَم علينا، ونزل، قال السائق: لعنة الله عليك، لم تنفع في بلادك فجئت إلى بلادنا لتؤذي الناس، ثمَ انطلقنا في جوف الليل.

مع الصباح وصلنا دمشق، قلب العروبة النابض، وأنجزت مهمتي بسرعة، ثمَ تسكعت في شوارعها، وذهبت إلى مقهى الروضة لأجلس إلى فنجان قهوة، وقد التقيت بعدد من الأصدقاء، من بينهم خليل الذي قعد بيننا وتكلمنا في الوضع الثقافي وغمزنا من قناة بعض المثقفين، وعندما حان وقت الغداء، شددنا أنا وخليل الرحيل إلى بيته، وفي الطريق اشترينا بعض الأشياء التي سوف تلزمنا، جلسنا في البيت وتناولنا الطعام، ثمَ سهرنا وتفرجنا على لوحات الفنانين العالميين ونمنا، وفي الصباح انطلقت إلى القابون أريد السفر إلى الرَقة، أخذت مكاناَ في البولمان، ورحت أتفرَج على المكان ريثما يمتلئ الباص، وفجأة بدأ الهجوم علينا، أو هكذا مااعتقدته، بدأ دوي القصف المركَز، والناس التجأت إلى أطراف الباصات تروم الحماية من القصف، ثمَ صرخ رجل بدوي خارج الباص، نظرت إليه كانت يده اليسرى قد بترت من الرسغ، فأسرع الشبان يحملونه بسيارة كانت واقفة على يمين الطريق، حملوها مع يده وأسرعوا يريدون المستشفى، وعندما تأكدت أنَ القصف قد هدأ انتقلت إلى باص آخر يصل إلى حلب/ الزربة، قلت في نفسي: المهم أن تصل، ولو تأخرت ساعتين، ثمَ تكلمت مع ابنتي وقلت لها: بأنني لن أتمكن من الحضور إليها لأنني اخترت الذهاب إلى الزربة ومنها إلى حلب، تمنت لي أن أعود بالسلامة، وعندما أصل إلى حلب أن أخبرها.

وصلت إلى ضواحي حلب الساعة الخامسة مساءَ، إلى الزربة التي تبعد عن المدينة حوالي ثلاثين كيلو متراَ، نزلت من الباص وصعدت إلى الميكرو، وانتظرت كي يكتمل عدد الركاب، وما إن اكتمل عددنا، حتى أقلع بنا الميكرو، وكانت الساعة هي الخامسة والنصف، ومن خان العسل التي تطل على التجمع السكني الذي أسكن فيه لمحت حارتنا وكيف تربض كأنها سفينة عملاقة فوق بحر هادئ، وما إن وصلنا إلى دارة عزَة حتى وقف الميكرو عند حاجز، جاء إلينا طفل لا يتجوز عمره الثانية عشرة، كان يضع على خصره مسدساَ، وطالب بالبطاقة الشخصية، أعطيته إياها، نظر إلي وإلى البطاقة وتركها في يده، وحين انتهى مضى إلى غرفة ثمَ عاد وأمرني بالنزول، أخذني  إلى غرفة، وهناك رأيت رجلين أحدهما تحرسه البارودة التي بجانبه، كانت بطاقتي الشخصية في يده، سألني وأنا أجبت، عن اسمي واسم زوجتي، وماذا كنت أفعل في دمشق، شرحت له كلَ ذلك، عندها أعطاني البطاقة، وقال: تفضَل مع السلامة، عدت إلى الميكرو، وأقلع السائق باتجاه المساء الذي كان يوشك على الرحيل.

وصلت بستان القصر في الساعة الثامنة والربع، ونزلت من الميكرو، اتجهت إلى المعبر من الجهة الثانية، وحينذاك بدأ القصف، كانت تأتي إلينا القذائف من كلَ مكان، ورجال الدولة الإسلامية اختبأوا في مداخل العمارات، والناس كذلك، كانت الأصوات تدوي، والناس تصرخ بالدعاء، ثمة رجل في الشارع ملقى على عربته المليئة بالدماء، بعض الشبان كانوا يدعون الله أن ينقذهم وأنهم لن يعودوا إلى هذا المكان إطلاقاَ، صوت القذائف يملأ المكان، وبدأت أبحث في ذاكرتي عن أقرب جامع أقضي فيه ليلتي، ثمَة دوي قوي يملأ آذاننا، قال أحدهم، إنها قذيفة دبابة، النساء يبكين، والليل راح يزحف على الكائنات والوجود، حينذاك قررت العبور إلى الطرف الأخر، فتسللت خارج مدخل العمارة، ومشيت باتجاه الخرابة، ثمَ وصلت إلى الخان، وأصوات القذائف من حولي تدوي، اجتزته مسرعاَ، وحين وصلت إلى الباب الثاني، توقفت، ونظرت إلى الشارع الذي سيقودني إلى الطرف الآخر، لم يكن به أحد سوى الأصوات التي تصرخ، وضعت رجلي على الدرجة الأولى ثمَ الثانية، وانطلقت راكضا لا ألوي على شيء سوى الوصول إلى الطرف الآخر، كانت المسافة تقدر بحوالي ثلاثمئة متر، وأنا ملك الركض، نظرت ورائي كان الرجال والنساء يهرعون ورائي، لقد تشجعوا على الفرار من المعبر إلى المدينة، ووصلت إلى الحاجز، كان الناس يختبؤون في مداخل العمارات، دخلت في إحداها ريثما هدأ القصف، وخرجنا من المداخل وتوزعنا في الشعاب كلَ في طريق.