دراساتصحيفة البعث

هوس الغرب وانعدام الأمن في العالم

عناية ناصر

أصبح العالم مكاناً أكثر خطورة، حيث كانت الدول الغربية خلال العام الماضي تحاول إقناع الجمهور العالمي قبول وجهة نظر مفادها أن الصراع الروسي الأوكراني هو الذي تسبب في الاضطرابات العالمية، لذلك وفق وجهة النظر تلك، فإن روسيا هي البادئ بكل حالات انعدام الأمن، والغرب هو الذي يحافظ على الأمن العالمي ويقضي على الشر، ولكن هل هذا هو الحال فعلا؟

إن المفهوم الغربي للأمن محصلته صفر، حيث تسعى الدول الغربية إلى تحقيق أمنها المطلق، ولا تهتم بالتضحية بأمن الآخرين، فعلى الرغم من أن الدول الغربية تدعي أن جميع البشر خلقوا متساوين، إلا أنهم تعتقد أن بعض الناس متفوقون على الآخرين، بمعنى أن الأنغلوساكسون متفوقون، ويجب أن يكون أمنهم  أولوية. من هنا، لم يتفكك الناتو بعد الحرب الباردة، بل توسع جولة تلو الأخرى باسم الحفاظ على الأمن الجماعي، كما يحاول الآن التوسع ليشمل منطقة آسيا والمحيط الهادئ. لهذا إن ما يجعل معضلة الأمن الدولي دائمة على وجه التحديد هو سعي الغرب بقوة لتحقيق أمنه المطلق، بغض النظر عن أمن الآخرين. وهنا يمكن القول إن اندلاع الصراع بين روسيا وأوكرانيا هو في جوهره نتيجة توسع الناتو باتجاه الشرق، ومحاولة ضغط الفضاء الاستراتيجي لروسيا. أي أن الغرب نفسه هو الذي تسبب في العواقب المريرة لذلك الصراع.

إن السلوك الأمني للغرب غير مقيد، فهو يتصرف بتهور في جميع أنحاء العالم ويخلق تهديدات أمنية بشكل مصطنع. ومنذ العصر الحديث، أصبحت القوى الغربية تدريجياً القوة المهيمنة في العالم بحكم مزاياها في المجالات العسكرية والاقتصادية.

من منظور الأمن، فإن تاريخ العالم الذي يهيمن عليه الغرب هو تاريخ من الحروب والصراعات. وبناءً على الشعور بالتفوق، اعتاد الغرب على التحكم في الدول غير الغربية، فالصراعات الثلاثة التي أعقبت الحرب الباردة والتي أثارتها الولايات المتحدة وحلفاؤها (حروب كوسوفو وأفغانستان والعراق) لم تفشل فقط في حل المشكلات الأمنية، ولكنها خلفت الفوضى. إضافة إلى ذلك، إن القدرات الأمنية للغرب محدودة، والغرب وحده لا يستطيع حل التهديدات الأمنية المتزايدة، فمنذ بداية القرن الجديد، تسارع مركز ثقل القوة العالمية في التحول من الغرب إلى الشرق، وأدى الصعود الجماعي للشرق إلى الضعف النسبي للغرب. ومنذ عام 2022، استنفد الغرب بسبب ارتفاع معدلات التضخم والركود الاقتصادي والصراعات الاجتماعية المختلفة. في المقابل، تستمر قضايا الأمن العالمي في الازدياد والتفاقم، مع تزايد التهديدات الأمنية التقليدية وغير التقليدية.

إن التناقض الرئيسي لنظام الأمن العالمي هو الصراع بين تقليص الأمن العام الناجم عن الضعف النسبي للغرب وتزايد التهديدات الأمنية التقليدية وغير التقليدية حول العالم، بحيث لا يمكن لهذا الصراع أن  يحل من قبل الغرب وحده، بل من خلال التعاون.

وهنا يمكن اعتبار مؤتمر ميونيخ للأمن هذا العام بمثابة صدام بين مفهومين للأمن، أحدهما هو المفهوم الأمني التقليدي الذي يلتزم بالمفهوم الغربي للعبة محصلتها صفر وعقلية الحرب الباردة، وهو يتخذ سياسة القوة والعسكرة كمدونة لقواعد السلوك، ويسعى إلى المواجهة الجماعية والتضحية بأمن الدول الأخرى من أجل ما يسمى بالأمن المطلق للغرب. أما المفهوم الآخر فهو الرؤية الجديدة للأمن التي تدعو إلى مفهوم الأمن المشترك، واحترام وحماية أمن كل بلد.

يرسم الغرب خطوطاً أيديولوجية للتحريض على الانقسام، والانخراط في التعددية الزائفة، وتقويض النظام الدولي تحت شعار ما يسمى بالقواعد، وجر العالم إلى حالة من عدم اليقين.

وعليه، ترتبط كيفية اختيار مفهوم الأمن وإعادة بناء النظام الأمني بمستقبل البشرية، فقد جاء في تقرير “الهيمنة الأمريكية ومخاطرها” ، الصادر عن الصين مؤخراً، أن “الدول الكبرى يجب أن تتصرف بطريقة تليق بوضعها وأن تأخذ زمام المبادرة في اتباع نموذج جديد للعلاقات بين الدول يتسم بالحوار والشراكة، لا المواجهة أو التحالف”.