ثقافة

“سامع يا بيك” قصص واقعية مصاغة بهوامش الذاكرة

كانت عوالم السرديات عند الكاتب والمخرج صلاح دهني في مجموعته الجديدة “سامع يا بيك”الصادرة عن وزارة الثقافة مليئة بالمشاعر والأحاسيس المدفونة تحت تراكمات السنوات ومصاغة بهوامش الذاكرة ،فجسد برؤيته المصوّرة نغمات حسية نشأت عن تأملاته المطولة والتي مزج فيها مابين شريط العمر الماضي وفق ما يسمى بالخطف السامي والواقع المعاش ،تنضوي ضمن إطار قصص اجتماعية تمثل أشخاصاً حقيقيين عانوا وظلموا وأحبوا وانكسروا ومع ذلك استمروا، كانت سلسلة مشاهدات عاشها الكاتب وتغلغلت بشرايينه ونبض روحه ،وأخرى عكست تأثره بالآخرين فملك القدرة على وصف سمات شخوصه ووصف تحركاتهم والتوغل بأبعادهم النفسية والحياتية ،فأجبر القارئ على تخيّل مشاهد متلاحقة بأسلوبية تشبه رؤيته كمخرج لعدد من الأفلام السينمائية القصيرة ،ورغم اعتماده على الحوار إلا أنه ركز ضمن عتبات السرد على الصراع الداخلي والخارجي الذي تعيشه الشخصية إثرمواقف ذاتية أو سلوكيات تجمعها بآخرين وينتج عنها ردود فعل مختلفة  ،وبقي هو السارد المهيمن على الأحداث على لسان البطل مستخدماً ضمير المتكلم حيناً والغائب حيناً آخر موظفاً الزمان والمكان لخدمة الحدث .خيمت على أجزاء  المجموعة التي ضمت ست عشرة قصة متفاوتة الحجم الرومانسية التي اتخذت أبعاداً مختلفة ،واللافت أنه لم يغرق أسلوبيته الكتابية بمفردات شعرية تقتحم الجمل المتلاحقة ،وإنما استرسل بوميض الذكرى لتتداعى مشاعر مرهفة انسدلت على الورق كالمياه الرقراقة وأومأت بالحزن وآلام الفقد والبعد ،بدا هذا واضحاً في قصة “حبّ بلا نهاية ” التي كانت أشبه برواية صغيرة من حيث مقوماتها عاد فيها الكاتب إلى سنوات خلت وإلى وقائع حياتية عاشها في باريس عاصمة النورأثناء دراسته، وروى لنا مراحل تجربة حبّ مؤلمة تركت جرحاً ينزف بعد أن التأم لمرارة الذكرى متنقلاً ما بين البيت الدولي إلى المدينة الجامعية إلى محطة الميترو إلى معهد الدراسات السينمائية العالمية ..ليتوقف عند الأيام الموجعة وابتعاد اليزابيت عنه وعودتها إلى حبيبها السابق أندريه لتتركه فريسة العذاب والحنين “هززت رأسي حاثاً إليزابيت على الكلام وأجابتني صراحة عن سؤالي المحزن والحاسم بعد أن استبطأتُ كلامها، فكأنما كانت من ناحيتها تستلهمني لتفكربطريقة إجابة تحسن بها القول دون أن تحيد عن المعنى ” .
ومن عنوان المجموعة سامح يابيك يتضح معناها إذ رسم الكاتب ملامح الظلم والقهر التي طالت الجيل الماضي في ظل مجتمع منفتح على أشكال الاستغلال  ورغم كل المعاناة استمر في دورة الحياة .فتطرق إلى جملة قضايا اجتماعية أهمها مشكلة الاستيلاء على الميراث من قبل الأخ الأكبرالتي عانى منها الإنسان الريفي أكثر من غيره كما في قصة صراع والباص الريفي ..وهنا نلمح تغييراً في مستويات السرد وتصاعد حدة المواجهة والوصف الدقيق للانفعالات وانعكاسها على الوجوه ،ليمتد الصراع بصورة مختلفة في قصة “الإقطاعيون الصغار ” التي ذكر فيها حادثة إصلاح الأرض الصخرية المهملة من قبل أصحابها منذ عقود من قبل رجل مسن ساعده أطفال صغار على زرع غرسات الكرمة وحينما و تبرعمت وظهر العنب الأخضر “أطل عليهم شبان من دمشق أنيقون يمتطون سيارة فارهة جاؤوا يطلبون حقهم لأول مرة فكروا بالأرض “.
ويأتي نجاح دهني من براعته بتنوع مسار السرد بين ألوان متعددة ففي قصة “هوى ” يبيّن العلاقة الحميمة بين صديقين أحدهما مريض لايغادر المنزل والآخر يعيش قصة حب يروي تفاصيلها له، وكيف خبا بريقها وخمدت رغم اشتعال جذوة الحب في قلبه نتيجة سوء تفاهم لم يصحح .والمفاجأة أنه رغم دخول دهني تفاصيل الريف القديم إلا أنه حمّل داخل مجريات قصصه إسقاطات نعيشها بواقعنا كما في قصة “سامح يابيك ” التي تحدث فيها عن تفاصيل حكاية الأخذ بالثأر بين عشيرتين وتدخل الدرك لحلّ الخلاف والمصالحة، فيدفع رجال العشيرة مقابل الإفراج عنهم بعد الاشتباك بين بعضهم إلى رئيس المخفر والدرك وقائد الفصيل والوجيه والمختار.. ليمرر الكاتب رسالته “يمكن لأمريكا أن تزلزل الأرض بدل خالق الأرض يمكن لإسرائيل أن تدك شعباً برمته في السجون والمعتقلات ..يمكن يمكن ” .
وفي منحى آخر تناول قضية الإدمان على القمار الذي يؤدي إلى تدمير العائلة المادي والنفسي كما في قصة الرهان حينما خسر البطل راتبه الأول وراتبه من العمل الإضافي ،لتأتي قفلة القصة بنهاية صاعقة حينما يراهن في النهاية على زوجته .
وبين حنايا المجموعة اندثر القتام وشبح الموت القادم بلونه الأسود ليصوّر معاناة الزوج بعد إصابة زوجته بالمرض الخبيث بالعقد اللمفاوية وفشل كل محاولات الأطباء لإنقاذها في مشافي فرنسا ،ورغم كل مقاومتها المرض تعود مع زوجها إلى دمشق لتستلقي بالسرير دون حراك وسط ضجة أهلها وصديقاتها وآهات زوجها .”وأنت بيننا قريبة بعيدة مسجاة بلا حراك سوى هذا التنفس الرفيق وأنة متعبة كسيرة “و في المجموعة قصص أخرى عكست حياتنا وواقعنا وألمنا بلغة واقعية مشحونة بلمسات رومانسية تطرق بابنا ثم تعيدنا إلى يومياتنا .
مِلده شويكاني