محليات

بين قوسين “قرباناً للصندوق”

ليس مفاجئاً أن تعمد “أم السبعة أولاد” تلك الريفية السبعينية إلى تقديم عجل بقرتها ومصدر دخل أسرتها الوحيد قرباناً على مذبح الاقتراع، في بادرة تظهر المعدن النفيس للمرأة التي ذاقت مرارة أزلام السلاطين وإقطاع ما بعد الفرنسيين لتعتبر الولادة الأهم للأم سورية هي فجر السبعينيات، وهي التي تردّد كما كل نسوة وشيوخ المحافظات الأربع عشرة كل بلهجته ولكنته الدارجة “لم نشبع الخبز إلا على وجه أبي سليمان” في دلالة معروفة للقائد الخالد حافظ الأسد، واليوم “على الدرب نفسه سائرون” كما يصرّون؟.
موقف الأم الريفية صورة واقعية من مسرح الحياة التي يصنعها السوريون باللون والكلمة والإرادة التي يشتهون ويحبّون، فالتحدّي اليوم لا يقبل التماهي والتردّد واختلاف التفاسير، فهي كلمة واحدة لا ثاني لها، إنها “الوطن” الذي شكّل وما زال البوصلة التي تجذب الكل إلى صندوق واحد يحتكمون إليه ويتنافسون من خلاله، ويتدافعون لممارسة حقهم فيه، ويختارون عبره ويحاربون في سبيله ولأجل نتائجه التي يجلّون ويحترمون.
بالأمس قدم الشيخ الذي سابق خيوط الفجر للجلوس على باب مركز انتخاب بلدته في السويداء منتظراً التوقيت ليكون “العدد واحد” في القائمة، وأرملة الشهيد التي احتضنت أيتامها باكراً جداً لتسأل عن أقرب صندوق وتقدّم شهادة تضاف إلى شهادة زوجها، و”الختيار” الذي أتى يمشي الهوينى على عكازه، وأطفال الحي الذين صنعوا صندوقاً كرتونياً وهمياً لأصواتهم البريئة، والمغترب الذي قطع آلاف الأميال ليعبّر ويدلي بصوته، والمهجّر الذي قاوم حقد الإرهاب وقاوم بالكلمة، كلّهم قدّموا دروساً في إرادة المشاركة وتحدّي التهديد والتخويف الأعمى..
هم السوريون الذين يعرفون تماماً كيف يفاجئون الآخرين، ويعلّمون “القتلة والمتآمرين وفراخ السياسة والمتاجرين وأكلة لحوم البشر والنخاسين”، كيف تحاك وتصنع وتستثمر الكرامات وتدار الديمقراطيات بقلم الطالب، وفكر المثقف، وعدة العامل، ومعول الفلاح، وتضحيات الأم، ومسطرة المهندس، وعدالة المحامي، ورساميل الصناعيين والتجار، وبندقية الجندي.
هو مجرّد صوت وصندوق تحوّل إلى مخرز في عين مدّعي الحرية والتشاركية في مجتمع وحّدته المحنة وزاد الألم من آماله وقرّر التسلح بالصلح والتسامح والمصالحة بنكهة “الأهلية بمحلية” وليس بالمقولبات المورّدة، وفي الآخر يحتفل بالفصل الجديد للنجاح في اختبار “رش الملح على الجرح” ونفض غبار الحرب وإطلاق ورشة الإعمار الكبيرة.
نعم إنها الأرض التي تستحق أن تضحي الأم صاحبة القربان بمصدر دخلها الوحيد من أجلها، وتعاني العجوز الحلبية المعاقة والمهجّرة الأمرّين في الوصول إلى المركز في طرطوس، والطاعن في السن الذي قدّم بصمة مضرّجة بالدم مقدّمة من المحاربين القدماء.
إنه انتصار الكلمة على آلة القتل والإرهاب، والبطولة دائماً للإرادة الصلبة والحق الذي يغلب دائماً حتى لو خسر جولات، فيكفي أن يحتفل السوريون على طريقتهم التي يفخرون بها، لأنهم هم الذين يضحكون كثيراً في آخر المطاف، وبعد كلّ التحدّيات والاستحقاقات والواقعات..
علي بلال قاسم