السينما الأمريكية.. أفلام تكتبها السياسة ويخرجها البنتاغون
ليست هذه الجملة هرطقة أدبية لمادة تحليلية في جانبها النقدي، بقدر ما هي حقيقة مطلقة، صارت بمدلولاتها الإيحائية واقعاً حقيقياً لعالم الفن السابع، بعد أن تدحرجت بكرة الفرنسيين الأخوين لوميير، داهسة في طريقها كلَّ التقاليد الأصيلة لهذا الفن، قبل أن تنزلق عن حافة هوّة سحيقة معلقة بطرف شريط النيغاتيف الذي ينوء بثقل أكثر من مئة عام، حملت بتعاقبها الكثير من الروائع السينمائية، كان خلالها الفن نتاجاً فكرياً وفنياً وإبداعياً خالصاً قبل أن يتحوّل هذا العالم السحري، بما قدَّمه من أعمال شارلي شابلن، و”ذهب مع الريح”، مروراً بـ”الطاحونة الحمراء”، من اشتغالات روحية صرفة إلى صناعة ثقيلة لا تقلّ خطورة عن الصناعات الحربية، بفعل عوامل عدة، أبرزها العامل السياسي، بعد أن أدرك ساسة بلاد العم سام أهمية هذه الصناعة الاستراتيجية، ومدى تأثيرها في اللاوعي الإنساني، وذلك من خلال تمريرها بسلاسة الصورة وقدرتها الإقناعية الكثير من المقولات، والأفكار الاجتماعية والإنسانية والاقتصادية، حسب مفهومها لتلك الأفكار، لتخدم أجندتها السياسية في العالم، فالفيلم السينمائي صار جزءاً لا يتجزأ من الصراع الأيديولوجي القائم في عصره، حيث ينتمي الفيلم إلى هذا الصراع مثلما ينتمي إلى ثقافة ذلك العصر وفنّه، نظراً إلى ارتباطه بجوانب حياتية عدة، وجوانب سياسية متباينة خارج حدود النص الفني والمادة الفيلمية بحدّ ذاتها.
“الصورة أصدق أنباء من الكتب”، هذا ما قاله المتنبي الأمريكي “فييتز”: “إنَّ الدال هو الصورة، والمدلول هو ما تمثله هذه الصورة”، فهي شئنا أم أبينا صارت مكافئاً بصرياً للواقع، بل إنها تطرَّفت في تقديم واقع ليس موجوداً أساساً، والملاحظ، من خلال أغلب الأفلام التي قدَّمتها هوليوود -بعد إقصائها أهمّ المدارس السينمائية العالمية الروسية التي قدَّمت أروع الأفلام ومنها “كل شيء هادئ على الجبهة الغربية”، أو السينما اليابانية ومخرجها الأعظم كيروساوا، والعديد من المدارس الأوروبية- أنها سعت إلى تقديم فكرتين للعالم من خلال أفلامها بمختلف أنواعها حتى الرومانسية منها: الفكرة الأولى تقول إنَّ أمريكا هي المنقذ لكوكب الأرض من أي اعتداء خارجي (كأفلام حرب النجوم العجيبة الغريبة)، وهي حامية الشعوب ومحررتها، أما الفكرة الثانية، فتتلخص في عملقتها للفرد الأمريكي، سواء بجعله خارقاً للطبيعة كسوبرمان وإخوانه، أم من خلال الإنسان الأمريكي العادي كما قدَّمته في فيلمها ذائع الصيت “التايتنك”، عندما يقوم إنسان أمريكي فقير بإنقاذ سيدة أرستقراطية أوروبية، وبالتالي إنقاذه إرثاً تاريخياً كاملاً كان سيندثر، لولا أن قام الفتى بإنقاذها، ولم يقدم الفيلم، عدا ذلك الطرح، أيَّ شيء يستحق الذكر، وأعتقد أنَّ هذا التركيز على تضخيم كلا الأمرين مردّه محاولة طمس ذاكرة العالم عن الفرد الأمريكي، وبالتالي الدولة الأمريكية التي أبادت الملايين من الهنود، وبقيت لسنوات خلت تستعبد الزنوج.
“هز الكلب” وحقيقة الحروب الأمريكية تلفزيونياً
“هز الكلب” هو فيلم للمخرج باري ليفينسون، الحائز أوسكار أفضل فيلم “رجل المطر”، يبدأ الفيلم بمقولة تعبّر عن طبيعة العقل الأمريكي البراغماتي بشكل عام، يقول: “لماذا يهزّ الكلب ذيله؟.. لأنَّ الكلب أذكى من ذيله، ولو كان الذيل أذكى لفاز الذيل”.. يحكي الفيلم قصة رئيس أمريكي مقبل على مرحلة انتخابية بعد أسبوعين، ترتكز حملته الانتخابية على مثل شهير يقول: “لا تغير الخيول في وسط المضمار”، تتدنّى شعبية الرئيس بعد فضيحة تحرّشه بفتاة تزور البيت الأبيض، في إشارة إلى مونيكا لوينسكي، فيلجأ الرئيس إلى أهم مستشاريه (يؤدي دوره الممثل العالمي روبرت دي نيرو)، ومساعدته (تؤدي دورها الممثلة آنا هيش)، المستشاران لا يهتمان بالأحداث الحقيقية بقدر اهتمامهما بالمعلومات التي تصل إلى الإعلام.. يقرران تمديد زيارة الرئيس إلى الصين، ويخترعان أزمة القنبلة البي3، معتمدين في ذلك على شعار: “غيّر القضية غيّر القصة”، ويستعينان بمنتج مشهور يقوم بدوره المبدع داستي هوفمان، حيث يستطيع هذا المنتج أن يصنع حرباً تلفزيونية، تجعل زيارة الرئيس إلى الصين من أجل التفاوض مع وفد ألباني حول قضية القنبلة، يبدأ الفيلم الإنقاذي للرئيس بأغنية حماسية وعاطفية تبثّ في نشرات الأخبار، مترافقة مع مقطع فيلمي لفتاة ألبانيّة تحاول النجاة من الإرهابيين، وهي تحمل قطة، طبعاً الفتاة ممثلة أمريكية مغمورة، والتقنيات هي التي جعلتها تبدو كأنها تركض بين النيران في ألبانيا، بينما هي في استوديو، تكتشف وكالة الاستخبارات الخدعة، وتقوم بعقد صفقة مع المرشح الرئاسي الآخر لتبثّ على التلفزيون الوطني أنَّ الحرب انتهت، لكن المنتج يعلن أنها حربه وهو يقرّر كيف ينهيها، ويخرج الرئيس من ورطته، فيخترع قصة جندي أمريكي عالق خلف خطوط العدو، يصمّم الرئيس على استعادته، وهنا يستعينون بمجرم سجين، ليكون هو الجندي المنشود، إلا أنَّ هذا المجرم يُقتل في طريق العودة، أثناء محاولته اغتصاب ابنة أحد الأشخاص، يتابع المنتج فيلمه بأنَّ الجندي البطل استشهد، ويعيدونه ملفوفاً بالعلم الأمريكي، وتقام له جنازة الأبطال.. ترتفع شعبية الرئيس إلى89 %، ولكن المنتج يقرّر أن يقول الحقيقة، لأنه قام بإنجاز فيلم قد يأخذ عليه جائزة الأوسكار التي يحلم بها، طبعاً تتم تصفيته، ويعلن في نبأ سريع على التلفاز وفاة المنتج بنوبة قلبية، رُشّح فيلم “هزّ الكلب” إلى جائزتي أوسكار عن أفضل فيلم مقتبس، وأفضل دور ممثل لداستي هوفمان، لكنه لم يفز بأيّ منها، الفيلم مقتبس عن رواية بعنوان “البطل الأمريكي” للكاتب والصحفي لاري بينها، وهو عبارة عن رواية ساخرة تنبأت بأن عملية عاصفة الصحراء ما هي إلا أكذوبة لإعادة انتخاب الرئيس بوش الأب.
تمام علي بركات