في ندوة “الإعلام ومحاربة الفكر التكفيري” د. حويك: الإقرار بوجود رأي عام يتطلب إطلاق حرية الجدل الفكري العام
لطالما تغنّى الجميع بأنها أرض الإخاء والوطن الثاني لكل من يزورها، أرض طاهرة لم يعرف شعبها الحقد على أحد، فكان لابد من تغيير هذه الصورة من قبل الذين لايريدون الخير لسورية، فعملوا على تصدير الفكر المتطرف الملوث بالنفط الخليجي الذي حاول أن يصبغ زهور هذه البلد المعطاء بلونه القاتم، وكان الفكر التكفيري إحدى الأدوات التي استخدمت في دول عربية أخرى وتستخدم الآن في سورية كونها الورقة الأخيرة في أيدي أعداء الإنسانية.
ولأهمية الوقوف على خطورة هذا الفكر وآليات مواجهته كانت الندوة التي نظمها المجلس الوطني للإعلام واستضافتها دار البعث بعنوان “دور الإعلام في مواجهة الفكر التكفيري”.
تضمنت الندوة مداخلات لثلاثة باحثين من أقطار عربية شقيقة هم د. حياة الحويك عطية من لبنان وسعود قبيلات ود. إبراهيم علوش من الأردن وإدارة الندوة كانت لرئيس المجلس الوطني للإعلام أ. محمد رزوق وقد حاول المشاركون مقاربة الدور المهم لوسائل الإعلام في مواجهة الفكر التكفيري وأولى المداخلات كانت مع الباحثة د. حياة الحويك العطية التي بدأت مداخلتها بتساؤلات كادت تختصر موضوع الندوة، معتبرة أن الإجابة عنها تمثل الحلول لمعالجة خطر الفكر التكفيري، حيث تساءلت حول الأسباب التي تقود إلى التكفير وتعطيل العقل، وكيف يتشوّه مفهوم الهوية، معتبرة أن “النحن” التكفيرية حلت مكان “النحن” الوطنية، وهذا تم بفعل تشوّه الفرد نفسه، لأن المواطن عندما يعي نفسه تتحرر أناه الفردية بأدوات نقد ذاتية لتبني خيارات فردية بحسب العقل النقدي، كما أن هذا التشوّه العابر من الفرد إلى الجماعة ومن الجماعة إلى الفرد لابد أن يواجه بالعلم التنويري الحر الذي يحرر ويطلق العقل وليس بالشهادات الجامعية، كما نوهت إلى ضرورة عدم الخلط بين الحكومة والدولة، فالدولة عالم مقدس يجب الحفاظ عليه، أما الحكم فهو شيء متداول ومن الواجب تغييره باستمرار.
وعن مقولة إن الإعلام يبني الرأي العام وإلى أي مدى ينطبق ذلك علينا أوضحت د. حويك أنه ليس كذلك عندنا حتى أننا لا نملك رأياً عاماً لأن الرأي هو فعالية عقلية يمارسها العقل بحرية الاختيار أمام حرية طرح كل الرؤى وعندها فقط يكون هناك رأي، أما أن تستثار الغرائز على اختلافها، فهذا مجرد استفزاز غرائزي، ونستطيع القول بوجود رأي عام بعد إطلاق حرية الجدل الفكري العام على الساحة العامة ما يؤدي علمياً إلى تشكيل الدائرة العامة وتشكيل رأي عام يخاطبه الإعلام ويؤثر به، وإلّا فما يقوم الإعلام به هو تهييج قطعان وقيادتها إلى ما يريده، وهذا ما اعتمدت عليه وسائل الإعلام الغربية في استثارة الجمهور العربي بناء على خطط دقيقة ودراسات خبراء غربيين قادت إلى هذا الخراب والتدمير لتحقيق أهداف النظام العالمي، ولتخدم مشروع الشرق الأوسط الجديد وتنشر فكراً مذهبياً بالإضافة إلى أنها استخدمت أدوات تقنية متقدمة جداً.
كما تطرقت حويك إلى الشعار الذي طرحته قناة الجزيرة القطرية (الرأي والرأي الآخر) الذي طبقته نظرياً مع عدم وجود ما يقابله في الواقع أو تناوله لأي مسألة خليجية، كما مارست ما يُسمى بـ (الاستحواذ)بما تقدمه وتبهر به الناس لتستحوذ صفة الليبرالية والحرية وكسر القوالب، فتحظى بالمصداقية التي ساعدتها لتمرير أكاذيبها في بداية ما سمي (الربيع العربي)
وتابعت حويك: في الإعلام إذا لم يجد المرسل الإعلامي بيئة حاضنة لدى المتلقي سيمضي دون تأثير، لذا يجب أن يكون العمل على بناء بيئة حاضنة تتمتع بعقلية نقدية واعية لتواجه الحرب الإعلامية الكبيرة وتتلقى فقط الخطاب الذي يحترم عقلها، ومع أنه منذ الخمسينيات اتجه الباحثون في بريطانيا إلى دراسة التلقي وقدموها على دراسة الإرسال، إلّا أنني أرى أنه يجب التوازن فيما بينهما، وأشارت إلى أن التعليم لا يتوقف فهو تعليم مستمر يأتي عبر وسائل الإعلام، وهنا تكمن الخطورة، فالناس تكتسب وتتعلّم من الإعلام، والشريحة الأخطر هي شرائح الأمية التي تبلغ في بعض الدول العربية حوالي 60 % والتي تتلقى معلوماتها من الفضائيات بالإضافة إلى شريحة المهاجرين العرب الذين يتحدثون العربية فقط ولا يكتبونها، فالتلفزيون يصل إلى ما لاتصل إليه اللغة المكتوبة، أي إلى أفق (الجيو لغة )، فكل من يتكلم نفس اللغة يعتبر ضمن الأفق، كما اعتبرت حويك أن الشفوية في علم النفس الإعلامي تعيد إلى القبلية بسبب سرعتها واعتمادها على الصورة التي لا تترك مجالاً للتحليل والنقد العقلي وتستثير الغرائز.
وختمت بالقول: إذا كان التغيير ضرورة والإصلاح هو مبرر التغيير فإن التدمير إلغاء لمشروعية الإصلاح، فليس هناك ما يسمح بأي حال من الأحوال الانتقاص من هيبة الدولة لأن الدولة من دون سيادة تعيدنا إلى ما قبل المجتمع وما قبل الدولة، وليس من الصدفة أن دمشق أقدم عاصمة في التاريخ، ولذلك فالعبء كبير على دمشق لتغيّر وجه التاريخ.
مفاهيم تعرّضت للتشويه
أما الباحث سعود قبيلات، فقد تركزت مداخلته على رصد الدور الغربي في دعم الفكر التكفيري، إذ يرى أنه لا يمكننا التعامل مع التكفير كظاهرة إسلامية عربية بل لابد من النظر إليه في إطار النظام الرأسمالي برمته ودور الاستخبارات الأمريكية في تأسيس القاعدة، وفي هذا الإطار وقف قبيلات عند مفهومي الحرية والدين باعتبارهما من المفاهيم التي تعرضت للتشوية في العالم العربي لأغراض سياسية، مستعرضاً الكثير من الممارسات التي قامت بها الدول الاستعمارية باسم الحرية على مدى خمسة قرون اعتدت خلالها على العديد من الشعوب معمقة تخلّفها، كما نصبت حكومات فاشية في بعض الدول الأمريكية واستهدفت الحكومات الوطنية في الدول الأخرى، ومن هذه المقدمة انتقل قبيلات للحديث عن استهداف الفضائيات السورية لأنها غردت خارج السرب الذي أرادته الدول المعادية من خلال منعها من البث واستهداف كوادرها وكذلك القصف الإسرائيلي لقناة المنار وإثارة الفتنة الطائفية وإذكائها بين أبناء الشعب الواحد، ومن تلك الاستهدافات استهداف المثقفين والكتّاب والفنانين حتى في تلك الدول إن كان إبداعهم لا يتفق مع سياسات تلك الدول. وأعرب قبيلات عن اعتراضه على استخدام مفهوم الازدواجية في وصف السياسة الأمريكية في تعاملها مع الدول، معتبراً أن المعيار الوحيد الذي تتعامل به تلك الدول هو معيار المصلحة فقط، وأرجع طبيعة العلاقة بين الغرب والحركات الوهابية إلى أن تلك الحركات تمثل مخزناً حسب الطلب الغربي في كل المستويات من التحريض والدعاية إلى استخدام السلاح، وبعد إنجازها لدورها يمكن التخلي عنها، ومن العوامل التي ساهمت في وصولنا إلى ما نحن عليه من تراجع خطاب التحرر الوطني والعدالة الاجتماعية في العقدين الماضيين، والتأكيد على انتهاء الدولة الوطنية بفعل ممارسات الدول الاستعمارية، والمسؤولية في هذا لا تقع على عاتق تلك الدول الاستعمارية فقط بل كان للممارسات التي ارتكبت بحق حركة التحرر العربي من قبل بعض أطرافها دور في ذلك.
مرونة تعامل التكفيري مع الغرب
ولأن محاربة أي ظاهرة سلبية يقتضي فهمها كان لابد، كما يرى الباحث د.إبراهيم ناجي علوش، أن نستنبط كنه التكفير لنفهمه ونقضي عليه، فهناك محاربة للمشروع النهضوي العربي وعلينا أن نبدأ بتشخيص صفات الفكر التكفيري لوضع مجموعة استراتيجيات لمواجهتها.
ووصف علوش الفكر التكفيري بمجموعة نقاط، أولها أن هذا الفكر يسعى لتعطيل العقل ويعاديه، ومن هنا تصبح فتاوى الغرابة هي القاعدة لديه فهي تكريس تعطيل العقل، والرد يكون بإعادة مكانة العقل الذي كان أساساً للنهضة العربية والنهضة الأوروبية، ولفت علوش إلى أن التكفير لم يبدأ من الميدان بل من التفكير والمنابر والإعلام ومنه إلى الميدان، لذلك علينا أن نعود للكلمة لوضع برامج تعليمية وتدريسية للتكريس لقيمة العقل، والنقطة الثانية هي أنه فكر يتطلب تعطيل الإيمان على الرغم أنهم يلهجون بذكر الإيمان ولكنهم نسوا معنى الإيمان الرحيم المتسامح، والرد يجب أن يكون من خلال إعادة الاعتبار لمفهوم التسامح. أما النقطة الثالثة التي توقف عندها علوش فهي أن التكفير فكر معاد للإنسان ويحقّر الحياة البشرية، فالحياة الآخرة هي المهمة فقط، ولذا أصبحت تصرفات التكفيريين تركّز على امتهان الإنسان والرد على هذا يكون بإعادة التأكيد على قيمة الإنسان ومرجعيته، وإعادة اعتبار الإنسان والإنسانية، وتأتي النقطة الرابعة لتؤكد على معاداة الفكر التكفيري لفكرة الوطن، فالمواطن المخالف في الطائفة أو التوجه يصبح هدفاً والرد يكون بإعادة التأكيد على فكرة الوطن وعدم الانسياق وراء النزاعات.
ومن النقاط الأخرى التي ذكرها علوش كصفات للفكر التكفيري وآليات مواجهته أن التكفير هو النقيض الموضوعي لمفهوم النهضة والرد عليه يكون بإعادة الاعتبار لفكرة النهضة القومية ورموزها، أيضاً التكفير كنهج وكعقلية معاد للمرأة ككائن ومناهض لها كإنسان، فهو يختزلها في بعد واحد والرد يكون بإعادة التأكيد على دور المرأة كإنسان مواز للرجل. والنقطة الأخيرة التي توقف عندها علوش في هذا المجال هي أن هذا الفكر استخدم لمحاربة تجارب النهضة والتحرر الوطني، والوحدة والنهضة العربية بكل ألوانها وهو مناهض لكل حضارة حتى الغربية ومناهض لكل الإنجازات البشرية، لكنه على الرغم من ذلك مستعد للتعامل مع الغرب ويقبل الدعم المالي والعسكري والسياسي منهم.
بعد هذا الوصف الدقيق الذي قدمه علوش محاولاً من خلاله رسم صورة حقيقية للفكر التكفيري، أكد أننا لا نستطيع اختزال العلاقة التكفيرية الغربية ببعد واحد لأنها علاقة متشابكة لأن مشروع التكفيريين يتقاطع في العديد من الجوانب مع مشروع الدول الاستعمارية باستهداف الدول المركزية وتفكيك المجتمعات لتبسط الشركات متعدية الحدود نفوذها، وبالطبع لابد لمواجهة الفكر التكفيري من استراتيجيات محددة لأنه إن استمر سيدمر كل شيء، وهذا يقتضي استراتيجيتين: الأولى أن نعرف أن الحيز الذي ملأه التكفير هو نفسه الحيز الذي انحسر عنه المد القومي والوطني.
من هنا لابد من إعادة إطلاق حركة المد القومي من جديد مع ضرورة التأكيد على أن مواجهة الطائفية التكفيرية لا تكون بطائفية مضادة بل من خلال الخطاب القومي والوطني. بعد هذا الجانب المهم الذي أغنى به علوش الندوة ختم كلامه بجملة جميلة توجه من خلالها بالتحية للجندي العربي السوري ولقائد سورية الرئيس بشار الأسد، مؤكداً بكلامه هذا أنه بالفعل ابن ذلك المناضل القومي الحقيقي ناجي علوش.
تلت الندوة بعض المداخلات من الحضور، اعتبر بعضها أن الندوة نخبوية بامتياز وأكد ضرورة أن تُقام المحاضرات والندوات الموجهة لاتحاد شبيبة الثورة والاتحاد الوطني لطلبة سورية.
وبدورها رأت د. أيسر ميداني أن الفكر التكفيري استهدف الدين والمرأة محولاً إياها إلى سلعة متداولة، وهنا يأتي دور الإعلام والثقافة في إعادة الاعتبار لصورة المرأة في المجتمع والتأكيد على دور وقيم الأسرة، أما ريم الأطرش فقد رأت أن التغيير يقتضي عقداً اجتماعياً جديداً يقوم على الدستور، مشددة على ضرورة إعادة النظر بالمادة الثالثة من الدستور.
لوردا فوزي– جلال نديم صالح