ثقافةصحيفة البعث

دلالة الفضاء في شعر مجنون ليلى

 

ليس غريبا أن يحظى الشعر العربي بهذه الكثرة الهائلة من البحوث والدراسات على امتداد فترات طويلة، أفرزت عدة أنماط من المقاربات،الوصفية التفسيرية والتحليلية، فقيمة الشعر جمالياً، تكمن بمقدار انفساح الأفق التأملي والتحليق بوظيفة الفن الشعري عبر فضائه الشعوري العميق، الذي يمثل قيمة عليا في الوظيفة الشعرية، فالشعر لعبة الإبداع، وهو فن منطوق اللغة جمالياً، وفضاء مراود لما هو سائد، ومفاجئ لما يمكن أن يتوقع، وهكذا يصير شرط الإبداع في الشعر تجاوز المألوف والسائد بخلق فضاءات جديدة داخل الجنس الأدبي، وتوسيع وتطوير لكل عناصره القابلة للتطوير والتوسيع، ويحظى الفضاء بقيمة جمالية خاصة تغني الدلالة وتكشف عن رؤى الشاعر، ويتفاعل الفضاء مع المكونات الأخرى للنص الشعري السردي؛ فيؤطر للحدث وينظمه، سواء أكان مكانا حقيقيا أم مكان حلم وصورة؛ إذ لا أهمية لفضاء محض مفرغ من الأحداث والشخصيات والرؤية الخاصة.
ويتمرد المكان الشعري الذي يخلقه خيال الشاعر على المفاهيم الهندسية، في انزياح واضح عن منطق الضبط والمقاييس، فالشاعر يمتلك حرية واسعة ليبني فضاءه الخاص ويشكله كيفما يشاء، ويرتبط تكوينه بإمكانيات اللغة الأدبية في التعبير عن المشاعر والعلاقات المكانية، ومن هنا تأتي دراسة دلالة الفضاء من داخل النص الشعري، وفق مظاهره البنائية التي كونها الشاعر على هواه.
الشاعر العربي قيس بن الملوح، الملقب بمجنون ليلى، شاعر الغزل كان من المتيمين، عاش في فترة خلافة مروان بن الحكم وعبد الملك بن مروان في القرن الأول من الهجرة في بادية العرب، لم يكن مجنوناً وإنما لقب بذلك لهيامه في حب ليلى العامرية التي عشقها فرفض أهلها أن يزوجوها به، فهام على وجهه ينشد الأشعار ويتغنى بحبه العذري.
وإذ نتحدث عن دلالة الفضاء في شعر هذا المجنون لابد من التفصيل في صيغ بناء الفضاء في شعره وما تمتاز به، فصيغ بناء الفضاء النصي عنده تتمتع بمكانة متميزة، تعود إلى الدلالة التي يمتلكها النص، فالنص يعمد إلى تصوير الفضاء وتقديمه بوصفه فضاء ذا أبعاد مكانية وزمانية محددة، ولكنه يوظف لأداء دلالات عدة، فهو بتأطيره للحدث يكشف عن رؤية الشاعر، ويشف عن اللحظة الشعورية التي تتملك الشاعر، ويسعى المتلقي إلى تملكها. أما صيغ بناء المكان الشعري فقد تنوعت في أشعار المجنون، ويؤدي هذا التنوع دورا كبيرا في خلق المعنى، وإضفاء دلالات جديدة حرص الشاعر على إيصالها إلى المتلقي. ومن أهم هذه الصيغ (المكان المحدد وغير المحدد)، فالمكان المحدد: يفصح الشاعر عن اسم مكانه ليفسح للمتلقي بمشاركته عالم فضائه الداخلي، فهو يودع هذا الاسم دلالات خاصة تثري المعنى، وتكشف عن رؤيته.
ومن أمثلة المكان المحدد في شعر مجنون ليلى، مكان فيه واديان له فيهما ذكريات جميلة بصحبة من يحب، بقيت عالقة في وجدانه، فيزور المكان؛ لأن نفسه لاتنفك تحن إليه، مع علمه بأنه لايستطيع أن يعيد إليه لقاء الحبيبة. وهو يحب زيارة الواديين مع علمه بأن أهلهما ينظرون إليه نظرتهم إلى غريب غير مرحب به، وهم يراقبونه في ذهابه وإيابه مرتابين في أمره، ولكنه يحب ديار الحبيبة ولو كان كثيبا رمليا، فكيف بهذا الوادي الجميل:
ألا لا أرى وادي المياه يثيب ولا النفس عن وادي المياه تطيب
أحب هبوط الواديين وإنني لمشتهر بالواديين غريب
أحقا عباد الله أن لست واردا ولا صادرا إلا علي رقيب
وإن الكثيب الفرد من جانب الحمى إلي وإن لم آته لحبيب
ولا خير في الدنيا إذا أنت لم تزر حبيبا ولم يطرب إليك حبيب
يتحدث الشاعر عن المكان المحبب (الواديين)، ويتخذ لذلك علامة مرجعية، وهي الحبيب، فالمكان المحبب هو الذي يحضن الحبيب، ولو كان كثيبا رمليا، ستذروه الرياح بعد قليل. أما المكان غير المحبب فهو الذي لم يحظ بزيارة الحبيب، فلا وجود لأسباب الحياة فيه، ولو كان واديا عامرا بالمياه العذبة، وتنسحب هذه المرجعية على (الدنيا) المكان الأرحب، فتنتفي عن المكان صفة الجدوى والخيرية والنماء، وذلك إذا فقد الحب.
د. أحمد دواليبي
عميد كلية الآداب – جامعة حلب