ثقافة

ارهاصات من رحم الأزمة قراءة في الفن التشكيلي ودوره في المجتمع

كان للفنون عبر التاريخ دورها البارز في رصد التحولات الكبرى في المجتمعات من حروب وأزمات وكوارث وانتصارات، وقد جهدت تلك الفنون أن تكون الحاضر الأبرز في محاولة استشراف ما سيحدث أو مرافقة الأحداث في تحولاتها أو الوقوف عند أسبابها ونتائجها وما أفرزته على صعيد المجتمع ككل، وقد ينطبق ذلك إلى حد كبير على فنون الأدب كالرواية والشعر، والأمثلة كثيرة، لكن السؤال الذي يمكن أن نطرحه في هذا المجال، ونحن مازلنا نعيش ظروف الأزمة، إلى أي درجة ينطبق ما قلناه عن الأدب على الفن التشكيلي؟ هل يمكن للفنان أن يعبر بنفس طريقة الأديب، أم أن هناك خصوصية من نوع ما تحكم عمل الفنان التشكيلي؟ وهل هو ابن الحدث أم أنه من سيرصده فيما بعد ليكشف أسبابه وتداعياته.. أسئلة كثيرة طرحت خلال الفترة الماضية حول دور الفن التشكيلي خلال الأزمة في سورية، وهناك من رأى أن هذا القطاع قد تأخر عن أداء دوره، في حين رأى البعض أنه كان على قدر المسؤولية،

ويبقى الأجدر بالإجابة عن تلك التساؤلات الفنان التشكيلي نفسه، فمن يستمع لحديث د.عبد المنان شما يدرك حقاً أنه أمام موسوعة في عالم الفن، حديث شيق لم أملّ سماعه، حيث أخذني شما خلاله إلى جذور الفن في أوربا وتأثير الأحداث الكبرى وانعكاساتها على الفنانين هناك، وعن خصوصية الفنان التشكيلي في التعبير عن الحدث قال الفنان شما: تختلف أدوات الفنان التشكيلي وطبيعة عمله ووسائله التعبيرية عن الفنون الأخرى من شعر وقصة وإعلام، ويعيد شما السبب إلى أن المبدع في هذه المجالات يمكن أن يعبّر ويصف ما يحدث بكلمة بسيطة “هجمة كونية تستهدف وجودنا” فالأمور واضحة بأن ما يحدث لمصلحة الصهيونية ومن يدعمها، لكن في الفنون التشكيلية لا يعبّر الفنان بالكلام، لذلك إنجاز عمل ما حول الأزمة يحتاج لوقت أكبر من غيره، من هنا ربما نرى أن قطاع الفن التشكيلي قد تأخر عن غيره والسبب طبيعة عمله المختلفة، لذا فإن إنتاج أعمال ومعارض عادة يحدث بعد فترة من الحدث، ليس لأن الفنان لا يدرك حقيقة ما يحدث بالطبع، لأن المثقف الواعي يدرك منذ البداية أن المستهدف الأول مما يدعون أنه “ربيع عربي” هو سورية، حتى قبل بدء الأحداث فيها، فلا يمكن أن نتوقع خيراً من الدول الاستعمارية التي أوجدت إسرائيل.
ويعتبر شما أن الأعمال الحقيقية للفنانين التشكيليين ستأتي لاحقاً من خلال لوحات غاصت بعمق في حقيقة ماحدث، ويدلل على ذلك من تجربته الشخصية، إذ يقول: نحن كفنانين في مرحلة حرب تشرين التحريرية قدمنا ومباشرة أعمالاً عبّرت عن الواقع، لكن ما يحدث الآن  في سورية مختلف لأنه لم يحدث مثله في التاريخ، فرغم سنوات الأزمة التي قاربت الأربع سنوات مازلنا نقف مذهولين أمام حجم المؤامرة. وهنا لا يستطيع شما أن يخفي مشاعره  ليحدثني بتأثر عن أبعاد الأزمة التي عشناها والتي لم يسلم من أذاها أي إنسان سوري، ذلك أنها جعلت حياتنا جميعاً أصعب ورتبت على عاتقنا مسؤليات إضافية، وبالتأكيد سيكون لفنان بخبرة وتجربة شما قراءته الفنية للأحداث، لكن هل سنشهد ذلك قريباً في لوحاته يجيب:  في ذهني الكثير من الأفكار للوحات تعبر عما نعيشه، وهناك لوحات عملت لها دراسات لكن الأعباء في العمل والمنزل والتي ازدادت بفعل الظروف منعتني من إنجازها، وآمل أن أتمكن من ذلك قريباً. ويبدو شما مؤمناً بدور الفنان التشكيلي، معتبراً أن الفنان الواعي سيلعب دوراً مهماً في ترميم الشرخ في المجتمع، طبعاً بعد أن تحقق سورية نصرها المؤكد بفضل جيشها وقائدها.
سيبقى الوطن
الوجع الأول
وكعادته يتحدث الفنان د.سائد سلوم بعفوية وصدق، حيث يقدم رأيه الصريح مباشرة إذ يقول: الفنان بشكل موضوعي إنسان حساس تجاه الواقع يراقبه ويستشف منه ما يحدث، ومن هنا تبدأ التفاعلات الكيميائية وعمليات التحليل والتركيب في عقله ليستوعب ما يحدث ويتفاعل ذلك مع إحساسه فتبدأ أعماله ليقدم منجزه الإبداعي، لذلك أستطيع القول إن تأخر معظم الفنانين عن إنجاز شيء تجاه ما يحدث، فذلك يعود لهذه العمليات التحليلية والتركيبية والتي تختلف من فنان لآخر، وبالطبع لا يريد سلوم هنا أن يبرر تقصير أي فنان، فيتابع حديثه ليؤكد أن الكثير من الفنانين السوريين لم يتوقفوا عن العمل خلال أكثر من ثلاث سنوات من عمر الأزمة، حيث ظهرت أعمالهم لتعكس بشكل جلي مواقفهم تجاه الحياة والأزمة، فمن يتابع أعمال الفنانين يشهد تفاوتاً في التعبير عما يحدث من حولهم، ويعيد سلوم هذا إلى أن الإبداع لايمكن أن يكون قسرياً عند الفنان، فهناك من يستطيع أن يقدم منجزه بعد فترة وجيزة، وهناك من يحتاج فترة أطول، لكن عموماً نشهد حضور الفنانين التشكيليين السوريين في الساحات التشكيلية والمعارض الجماعية والرسمية وقد نجد غياب بعض الأعمال لبعض الفنانين، ليس لأن الفنان لم يقدم عملاً بل السبب في حالات كثيرة غياب صالات العرض التي توقفت لأن أصحابها يحسبون الأمور مادياً، وبالتأكيد لا يمكننا أن نضع جميع الفنانين في ميزان واحد، فبعض الفنانين بقوا في سورية واستمروا في العمل رغم كل الظروف، في حين آثر آخرون الهجرة ليغردوا خارج السرب. وللفنان سلوم وجهة نظر في هذا المجال، حيث يرى أن هناك فنانين يرفضون كل شيء في الواقع والحياة حتى قبل الأزمة، وبعضهم قد لا يكونون فنانين بالمعنى الدقيق للكلمة، ومنهم من يسعى لشق طريقه بأي أسلوب كان ويقدم التنازلات حتى لو كان الثمن خسارة وطنه، في حين أن الانسان الواعي هو من يتمسك بأرضه وتراثه فمن لا خير فيه لبلده لا خير فيه للآخرين، ومن ترك سورية إن كان بالفعل ابن هذا التراب ستبقى عيونه ترنو الى الوطن الذي سيبقى وجعه الأول. وعن رضاه عما قدمه خلال هذه الفترة يقول سلوم: أنا راض عن إنجازاتي إلى حد ما، ولا أريد أن أقول إن الظروف هي التي منعتني من أن أنجز أكثر، لأن الإنسان الضعيف هو من يبحث عن المبررات، لذلك أقول وبتواضع هذه إمكاناتي العقلية والحسية لأنجز ما أنجزت.

قراءة أوضح للأحداث
وقد بدا مدير الفنون الجميلة الفنان عماد كسحوت بداية الأمر متحفظاً في إجابته عندما طرحت عليه السؤال: ماذا قدم الفنان خلال الأزمة؟ وربما كان طرحي للسؤال بمباشرة ودون مقدمات هو ما دفعه لذلك، لكن بعد أن جلسنا وتحدثنا قليلاً أكد مدير الفنون أن الفنان ابن البيئة ويعكس حالة المجتمع في جميع حالاته من فرح وحزن وانتصارات وأزمات. ودلل كسحوت على أن الفنان لم يكن سلبياً تجاه ما يحدث حوله بدليل النشاطات الكثيرة التي أقيمت خلال الأزمة بمشاركة الكثير من الفنانين، واللافت هنا  الكم الكبير من الفنانين الذين كانوا يتقدمون للمشاركة سواء في الفعاليات التي أقيمت هنا أو في الخارج، وتبقى لكل فنان وجهة نظره الخاصة، كما يرى كسحوت الذي يؤكد أنه مع حرية الفنان في تقديم رؤيته عن الأزمة، وبعيداً عن الدخول في تفاصيل ما قدمه كل فنان، اعتبر مدير الفنون أن الفنان السوري وبغض النظر عن أفكاره وأهدافه قد قدم رؤيته بتلقائية وعفوية، ويشدد كسحوت هنا على أهمية أن يكون هدف أي فنان في النهاية الحفاظ على وحدة أرض سورية وبنائها، وبالطبع تختلف أساليب الفنانين في التعبير، هناك من الفنانين من قدموا رؤيتهم من خلال رمز أو لون. وللصدفة تزامن لقائي بكسحوت في قلعة دمشق مع بداية ملتقى الفنانين الشباب الذي أقيم في القلعة، فأعطاني حينها كسحوت عدة أمثلة عن فنانين كانوا ينجزون لوحاتهم بجانبنا، ويعيد كسحوت هذا إلى أن الفنان ابن البيئة ولا يستطيع أن ينسلخ عن محيطه، ويؤكد لنا كسحوت أنه بعد انتهاء الأزمة ستكون هناك أعمال متميزة سيوثق الفنان التشكيلي من خلالها للمرحلة التي عشناها وكلما كانت الفترة أكبر ستكون قراءة الأحداث أوضح وسيكون للشباب الذين تأثروا كثيراً بهذه المرحلة الدور الأكبر في التعبير، طبعاً كل ذلك سيكون بفضل دعم وزارة الثقافة التي تؤمن بدور الجيل الشاب.

التعامل مع الصورة والشكل
وبدا الفنان د.محمد صالح بدوي في غاية التأثر وهو يتحدث عن الأزمة التي تمر بها سورية، مؤكداً أن الأزمة بأبعادها المختلفة أثرت على الجميع وليس فقط على الطبقة المثقفة، لأننا تعودنا على مجتمعنا بنسيجه الوطني المتماسك وبتوليفته الفسيفسائية المتحابة، ويصف بدوي  الحالة التي يعيشها وتأثيرها على عمله كفنان بقوله: في البداية كان التأثير الفكري أكثر عبر ترقب الأحداث، وهذا وضعني في حالة صدمة وذهول وولّد لدي نوعاً من الصراع  النفسي وأنا واثق أن التأثير على الفنانين الآخرين كان مشابهاً، فقد عشت حالة ذهول لم أستطع خلالها القيام بأي عمل إلا بشكل بسيط، وكلي أمل باستقرار الأوضاع، فأنا واقعي ولا أريد المجاملة وأعلم أن العدو التاريخي نفسه يتآمر علينا لكن بطريقة أخرى، صحيح أن هناك أشخاصاً من الخارج يقاتلون السوريين، لكن بنفس الوقت لا أستطيع أن أنكر أن هناك أيضاً من السوريين من تورط في الأحداث، فكيف يمكن لي بواقع قاس كهذا أن أعبر. ويتجاوز بدوي  الحديث عن نفسه ليحدثنا عن فنانين آخرين، مؤكداً أنه وإلى الآن لا يوجد فنان استطاع التعبير عن الحالة التي نعيشها بعمل فني لأن الفنان يتعامل مع الصورة والشكل وليس مع الكلمة، ولو أردت أن أعبر عما يحدث بشكل غير مباشر أو رمزي لكررت نفسي، ويؤكد  بدوي بكل عفوية عدم رضاه عن مستوى أدائه بسبب حالته النفسية المتعبة وغير المستقرة ما سبب تراجعاً في أدواته وانعكس على جوانب حياته كلها.
جلال نديم صالح