ثقافة

حنظلة.. لم يزل في العاشرة يا “ناجي العلي”

أيام مرت قبل أن اعرف في طفولتي قصة ذلك الفتى الكهل، القاطن في أسوار المدارس أبدا، وهو يدير ظهره للعالم، نصف خطوة للإمام وخطوة كاملة للخلف، معصمان متعانقان خلف الظهر وبضع شعيرات على رأس لا يحتاج لملامح تدل عليه، فلقد صار “حنظلة” وهو المولود تحت منجل نكسة 1967، هوية عابرة للحدود والمعابر، صار وجها لكل فلسطيني ورمزا لا يخفت وهجه للقضية الفلسطينية بعد أن نفخ فيه “ناجي العلي” بقلم رصاصه روحه البرية وأعطاه اسم كطعم أيامه “حنظلة”. بضعة خيوط منحنية صارت جرسا من أجراس العودة لا يكل عن النداء.

حنظلة القاطن فوق حيطان السجون وأسوار المدارس والكثير من السواعد والأكتاف منذ أكثر من أربعين عاما، يحكي بظهره المعطى للعالم ويداه الصائمتان عن السلام والتسليم قصة فلسطينه وتخاذل العربان عن نجدتها.
الذكرى الثامنة والعشرون لاستشهاد “ناجي العلي”على أيدي قتلة الأنبياء الصهاينة، وما يزال الدم حارا على الإسفلت، وجرح فلسطين لما يزل نديا في خدها، وحنظلة أيضا مازال مديرا ظهره للمقاولين بقضية وطنه وصدره للمقاومين والشرفاء في هذا العالم.
ناجي العلي وشهادات من الشباب السوري والعربي نستحضرها في ذكرى استشهاده:

وضوح الحق الفلسطيني عبر شخصياته.
يقول الكاتب والمخرج بشار عباس: “الزنازين” كانت مُحترف ناجي العلي الأوّل، وعلى جدرانها ظهرت تجاربه التشكيلية،  الأصالة التي تميّزت بها رسوماته الكاريكاتورية تعود لعنصر “الشخصيّة” في اللوحات، فقد زوّد الصحافة العربية بشخصيّات كاريكاتيرية عديدة اتّسمت بسهولة التذوّق الفنّي من الجمهور العربي، مع كثافة شحنة التواصل المعرفي والعاطفي، وذلك بسبب السهولة في المشاهدة والفهم والإحاطة التي تتحقّق ما أن تقع العين عليها، وسيلته كانت الأسلوب الإبداعي الذي تفوّق الرسام فيه على لغة الكلمات والخطابة والمؤتمرات.
بساطة شخصياته عكست بساطة ووضوح الحق الفلسطيني نفسه الذي لا يحتاج إلى شرح أكثر من زمن مشاهدة الرسومات التي أًشتهر  منها حنظله المولود من ريشة ناجي في 5 حزيران 1967، وبعدها شخصيّة الأم الفلسطينية القوية الصادقة “فاطمة” وشخصيّة زوجها المُنكسر، وبعد أن تعاقبت مؤتمرات القمة العربية وظهرتْ بوادر التسوية قام بإضافة شخصيات جديدة؛ مثل شخصية السمين الذي يقف على الأرض بمؤخرته وليس على أقدامه في إشارة إلى بعض القيادات الفلسطينية والعربية.
موهبة ناجي العلي كانت من اكتشاف الروائي الكبير غسان الكنفاني عندما التقاه وشاهد بعض رسومه في مخيّم عين الحلوة 1961 فقام بنشرها له، لعل الاغتيال الذي تعرّضا له في مكانين وزمانين منفصلين يدلّ على عقلية الإبادة التي تحكم القتلة، وهي عقليّة احتلال وإلغاء ليس لديها محظور أخلاقي، تسعى إلى حرمان الفلسطينيين حتّى من فنانيهم وكتابهم.”

حنظلة لا يدير وجهه
ويقول الكاتب الأردني نور شبيطة: “أوّل ما يخطر ببالي عند الحديث عن ناجي العلي هو فكرة الراهنيّة، أي أن رسوماته ماتزال تؤرخ لحقبة سابقة راهنةً وكأنها رسمت اليوم؟ ولا أعتقد أن الإجابة على هكذا سؤال ممكنة دون فهم كاريكاتوريّة الإدراك التي ميّزت ناجي العلي، أتحدّث هنا عن الشيء الذي يضخّم الملامح البارزة في أي رسم تشخيصي، التركيز على المميّزات والعيوب وتضخيمها الذي يتّسم به هذا الفن يجعل رسّام الكاريكاتور المعتدل مجرّد صوت باهت، مقابل حدّة وجذرية ناجي، التي لم تعرف خطّا أحمر، ولعل الواقع المعيش اقترب من الصورة الكاريكاتورية حتّى لم نعد نفرق بين الاثنين، وما نراه كنبوءات اليوم هو في الحقيقة نتاج لحساسية عالية التقطت العَرَض مبكّرا وضخّمته، ووفّقت في تشخيص المرض أيضا، فرسمت مثلا الحطة الفلسطينية تتحوّل لربطة عنق وطاقية!
ومما لا يعرفه معظم الناس عن ناجي العلي أنه كان مهتمّا بالشأن المحليّ الكويتي والخليجي حيث عاش فترة طويلة، أي أنه ملتصق بالواقع رغم نظرته الاستشرافية، وهذا سمح له أن يخلق شخوصا تعبيرية عابرة للمراحل، وحنظلة أحدها لكن هناك غيره، وإدراكنا اليوم لهذه الشخوص لعله لن يعجب الفنان، فحنظلة لا يدير وجهه كما فهم الجيل الجديد بل هو في أول طبقة من الكادر ينظر للأمام ويراقب المشهد ويرمز للمستقبل، ولو رآه ناجي العليّ اليوم رمزا للحرن والشرود والغضب السلبي على الواقع، لربّما جعله يلتفت للوراء ويشتم! ولو رآه يعلّق بجانب رموز أوسلو أو فهم فلسطين كقضية قطرية وفقط لربما مزّقه!”

ناجي العلي هل ينتظر حنظلة “غودو”
أما الناقد والإعلامي علي الحسن فيرى أن استعادة ناجي العلي هنا تفتح دروب الآلام الشائكة مشرعةً على الوجع وعلى “ارتطامات” واقع “منفلش” على مصرع دوي الحقائق والخيبات وهو الذي فتح وهج قلبه وعقله ليشع حزماً من بريقٍ عبر ريشة من قصب وحبرٍ من دماء.
استعادة ناجي العلي الفنان الفلسطيني الفذ تفتح شهية “الحكي” عن ماض قريب لم تغب ملامحه رغم أنف فنون الخداع البصري العصرية جداً، ورغم أنف أهم مبتكرات التنويم وتعطيل الحواس ودنيا تعج بـ”البلادة”، وتفتح شهية “الحكي” عن راهن حامي وطيس الاشتباك والضرب بيد من وهم على كامل وصايا ونبوءات ذاك القادم من “الشجرة”؛ مسقط الرأس هناك في الجليل الأسفل في رحلة نزوح مرير إلى المخيمات سكنت وعيه قبل الريشة التي حولها إلى سكين تفج رأس الحقيقة وتضرب كبد المرارة ليستمر في شغف التحدي والتماعات الإبداع – في مسيرة فنان- يطيّر أفكاره عابرة السجون والاعتقالات والفضاءات ليحتضنها أبناء الوجع وأنصار الإنسان حارّةً طازجة تنضح بكامل السخرية والتهكم دفاعاً عن الأرض والقضية والإنسان.
من جعبة لم تنضب يوماً أطلق في الصحف والمجلات سهاماً في صدر العتاة فعرّى وجوهاً ونزع أقنعة، وكان وحده أشبه بكتيبة حرب تعرف كيف تصوب نيرانها إلى العدو دريئة مكشوفة الوحشية؛ كتيبة لا تعرف للهزيمة لوناً ولا للإدبار طريقاً فكان “كاتم الصوت” هناك في مدينة الضباب؛ مدينة “الوعد”؛ كاتم الصوت الذي لن ينزع صوت ناجي العلي الذي ما زال مدوياً يملأ الفضاء حقيقة وألماً.
في ذكرى الرحيل ستصبح الأسلاك الشائكة جدراناً شاهقة الوخز المدمى ولا تنقطع الأرض من سنابل، وستظل لوحاته وحيدة أيضاً تضرب جلوداً ميتة من أبناء دم        سلاماً إلى “فاطمة” ولا حنّاء لكف في عيد ولا كعك: و”حنظلة” مكتوف اليدين بانتظار “غودو”.
ناجي العلي بوابات الأسئلة هل “أكله الذئب”حقاً؟! أم نقطة آخر السطر.
عندما سئل “ناجي العلي” عن عمر حنظلة قال: “حنظلة سيبقى دائما في العاشرة من عمره، ففي تلك السن غادر فلسطين وحين يعود حنظلة إلى فلسطين سيكون في العاشرة ثم يبدأ في الكبر، فقوانين الطبيعة لا تنطبق عليه لأنه استثناء، كما هو فقدان الوطن استثناء”.
تمام علي بركات