ثقافة

أحلام غانم.. تكسر جدران الغياب

مرة أخرى تبحر بنا الشاعرة أحلام غانم في بحر الحياة، تلامس مكنونات ذواتنا، وتحرض أحلامنا، عبر قصائد مجموعتها الجديدة “وينكسر الغياب”  التي حمّلتها هواجسها وتعبها وكل متناقضات حياتها- حياتنا – حيث تعتمد الجملة الشعرية المكثفة في مناجاتها لروحها، مجللة عبارتها بغموض يحث المتلقي على سبر معانيه في محاورة للقصيدة يستوضح من خلالها مقاصد الشاعرة التي لم تكشف عنها، فلنستمع إليها تناجي حبيباً منتظراً أن يسقط مطره على روحها ليجلي عنها عتمتها، ويتوج انتظارها باللقاء الحلم، ففي القصيدة التي حملت عنوان المجموعة “وينكسر الغياب” تقول:
(ياسيد الشعر/ يا بعض طين على طينة القلب مثوى/ الخميلا/ فكن نفسك/ انهض/ فداؤك قلب/ أفي القلب يروي الوريد جليلا/ فخذ ماءك/ انهض/ تشبث بنا/ هنا الآن يروي الخليل الخليلا/ بقلبك ياسيدي/ قافيات تدور اشتياقاً.. وترنو وصولا/ بعينيك شاعرة للغيارى/ تفجر نبع الحياة سبيلا/ أمامك لم يزل/ شوط وجد/ وينكسر الغياب وضمن مملكة تشبه المستحيلا).

وتحافظ غانم في قصائدها هذه على تميز صوتها الشعري بنكهته الخاصة التي تختلف فيها عن مجايلاتها من الأصوات الشعرية النسائية ببقائها ضمن بوتقة ذاتها ومعاناتها التي تحملها صوراً حياتية تنطبق في ملامحها وسماتها على ما يعتمل في دواخلنا من مشاعر وأحاسيس، ربما كانت شاعرتنا أقدر منا على إدراكها والبوح بها، بدءاً من علاقاتنا الأسرية التي تمثل لنا جميعاً القلعة والملاذ الذي نهرب إليه من متاعبنا وانكساراتنا، لكن الزمن يجعل كل واحد فينا مشغولاً بتعبه بعيداً عن الذين كانوا يتقاسمون معه يوماً حياته بكل دقائقها وتفاصيلها، ولم يبق منها إلا الذكريات.. تقول في قصيدة “حبق الغياب”
(وحدي تطوقني الجهات وعاشقي/ يذوي بعيداً في السكون/ لافاتح في الغيب أبصره.. ولانهر/ يعمد مقلتيه بنوره الغافي/ ويكنز ما تناثر منه في حبق الغياب/ وسوى لهاثي خلف أضرحة يكاد يجف، في الأطلال منبعها)
وفي خطابها للرجل نراها ترفع شراع عاطفتها باتجاه شواطئه لتستقر بها الروح في واحة أيامه، لتكون سماؤه فضاءها الذي تحلم العيش فيه، في تأكيدها على جدلية العلاقة التكاملية بين المرأة والرجل، يخطان أبجدية الحياة بحروف من حب يزهر أملاً في صحراء الزمن..تقول في “إليه ومن وحي ظله عارضته في”:
(صوفية الإشراق/ من أنت ياظلاً يعود إليّ/ عبر نوافذ الغزل/ متسلقاً عرزال وجدي/ يستلني من ثغر محبرتي/ ويذهلني ضياء النفحة الأولى/ من أنت يانحل الحقول وصهوة المرتجى/ ها أنت تنسج في وريدي معطف التنوين/ ها أنت تلبسني الصباح).
وفي لغة تحمل بعداً صوفياً يسم قصائد شاعرتنا، نراها تستحضر التراث عبر لغة شكلت الشاهد الأول على حضارة ضاربة في التاريخ وتركن للشعر الذي فتح نوافذ روحها على نور الحياة، وفي ليالي الشتاء الطويلة كانت تتقاسم معه رغيف الحنين لدفء الروح المثقلة بضجر الأيام وهذا ما نلمسه في قصيدة أفتكرك إذ تقول:
(أفتكرك/ وأشطر بيت قصيدي/ وأرسم بحور الدهشة/ بيوتاً أوغاريتية/ على ذراعي قرنفلة دامية/ تشتاق يديك وأرحل/ أبحث لك عن ألحان/ خلف الهمسات المستريحة/ والنوارس الآتية/ وأنكفىء/ أخشى أن/ تكون قد/ خبأت ربيع روحي/ في جسد الدالية).

وتترك الشاعرة باب قلبها مشرعاً لفرح انتظرته أن يأتي محملاً بغيوم بيضاء تسكب غيثها العابق بندى الحب فوق روحها ويغسل ماتراكم على مهجتها من غبار، ويضيء قناديل الفرح في غابة الحزن المخيم على الحياة.. فتقول في قصيدة “لو أخبرني العشاق”
(إني سأراقص طير الحبق الآتي/ لم ألعب بهوى الوديان/ ولم أكشف من سرق آمالي/ قد أخبرني العشاق أن قصيدي/ سيكون أميراً فوق حصان من ياقوت/ أغوتني الرؤيا بخلاخلها الخضر/ لم أعلم أني سأعود)/
وإذا كانت وظيفة الشعر تقوم على البحث والاكتشاف فإننا نراه لدى الشاعرة غانم يشكل بوحاً من شغف امتلاك الحقيقة، التي تشكل منها ربيعاً من شعر , ففي قصيدة “زهر الحقيقة” تقول غانم  :

مازلت تغرق بالمحال محــــــــــالا         ماذا وضعت على الثرى فتعالا
يا أيها المعشوق نداً آخـــــــــــــــر        غازلت غصن الورد فيك فمــــــــالا
أورقت في التخمر زهر حقيقة        لما انتهيت قصيدة ومقـــــــــــــــــــالا

لم تبتعد أحلام غانم في خطاب مجموعتها هذه عن مجموعاتها السابقة، وحافظت على أسلوبها السلس ولغتها الشفيفة التي رسمت تفاصيل تجربة شعرية نابضة بالحيوية والقدرة على الإبداع، في محاولة دؤوبة للاكتشاف وإثارة الأسئلة التي تطرحها على نفسها أولاً، ومن ثم على المحيط، وهذه مهمة المبدع، لما تحمله هذه الأسئلة من دلالات معرفية وعمق صوفي.

سلوى عباس