في كتابه “الجمال الموسيقيّ” د. علي القيم: موسيقانا في أزمة
يبيّن د.علي القيم في كتابه “الجَمال الموسيقيّ”، الصادر حديثاً عن الهيئة العامة السورية للكتاب، أن علم الجمال الموسيقي يرتبط بمستوى الثقافة الموسيقية والتذوّق الموسيقي والمتغيرات العميقة التي نالت ولا تزال من الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتربوية، ليقف القيم مطولاً عند المسألة التربوية لأنه وجد من خلال الدراسة والمتابعة الدقيقة أن تطوير الموسيقا عملية لا يمكن فصلها عن عملية تطوير التربية الموسيقية، وفق منهجية مدروسة على مستوى المدارس العامة والتكوين الموسيقيّ المتخصص في معاهد الموسيقا، وعلى أساس الانطلاق في التعامل مع التراث الموسيقيّ التقليدي والفولكلوري من نقطة تدوينه وتحليله واكتشاف مكوناته المتعلقة بالمقامات والإيقاعات، تمهيداً إلى ما أطلقه عليه علم الجمال الموسيقيّ.
وباتجاه آخر يأسف د.القيم في هذا الكتاب وتحت عنوان “موسيقانا في أزمة” لأن متابعاته الدقيقة والمتأنية لحال الموسيقا العربية تؤكد أن مشاكل كثيرة قد حاقت بها أدت إلى تدهورها وتدني مستواها وفقدها أصالتها وهويتها المميزة بين الموسيقا العالمية، والسبب يعود بالدرجة الأولى إلى الاقتباسات والإدخالات اللحنية والإيقاعية الجديدة التي أُدخِلت عليها بشكل متجانس ولا يتماشى مع جوهر الموسيقا وهويتها الأصيلة، بالإضافة إلى قناعته بأن الموسيقا في بلادنا تمر بمحنة شديدة لم تمر بها منذ فترة طويلة من الزمن، وهذه المحنة يشعر بها كل من يعمل في مجال الموسيقا والغناء، فالتأليف الموسيقي عندنا مثلاً يكاد ينعدم، وإذا كان موجوداً في مستوياته الدنيا فهو في حال لا يُحسَد عليه لأنه لا ينتمي إلى تراث وموروث الموسيقا في سورية، وهذا يتطلب برأيه جيلاً آخر من الموسيقيين المؤمنين بهوية وألوان الموسيقا في سورية بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة، فعلوم الموسيقا والتأليف الموسيقي لم تعد تلقائية ولم تعد الموهبة لوحدها ولا الفطرة السليمة تجدي نفعاً إن لم تصحبها الدراسة العميقة، مشيراً كذلك إلى أن عيوب الأداء في موسيقانا لا تقل أبداً عن عيوب التأليف، فالأصوات الموجودة على الساحة الغنائية في سورية قليلة جداً لأنها لا تقوى على الانتشار من غير دعم ورعاية وتشجيع وإعلام وتسويق، ولأنها في الأساس لم تسلك الطريق السليم في بداياتها ولم تستفد من إمكانيات حنجرتها، ووصل بها الأمر إلى مرحلة عجزت عن الوصول إلى قلوب المستحقين .
ويبيّن د.القيم أنه بعد رحيل جيل العمالقة: أم كلثوم-محمد عبد الوهاب-فريد الأطرش-عبد الحليم حافظ-وردة الجزائرية وخلوّ دول الغناء العربي من رموز الفن الأصيل، ظهرت في الساحة بعض الأصوات غير المدربة بنوع من الغناء أُطلِق عليه اسم الأغنية الشبابية المغرقة في السرعة والآلات الالكترونية البعيدة عن الأذن العربية التي تتشوق إلى سماع الأصالة والطرب، منوهاً إلى أن الأغنية العربية الحديثة التي نستمع إليها منذ عقود زمنية عديدة هي بكل أسف شريحة نغمية وإيقاعية ضئيلة ومشوشة وعاجزة عن احتلال مساحة حقيقية ولو صغيرة في أي قالب غنائي لأنها ليست دوراً ولا قصيدة ولا موالاً، وإنما هي شذرات هجينة غير غنائية مصبوبة في أفرع ضعيفة جداً من أجناس نغمية تنتمي نظرياً إلى بعض المقامات العربية المتداولة وإلى الإيقاعات البدائية، وهذه لا تعطي المستمع إلا ضجة عالية تدعوه إلى النهوض بالانهماك مع الآخرين في الرقص، وقد انقطعت الصلة تماماً ما بين صناعة الغناء التراثيّ الدقيقة وبعض الملحنين والمغنين الجدد، فلا يمكن أن نتحدث في وقت واحد عن الأغنية العربية وأغاني الشباب لأنهما أصبحا نقيضين من الناحية الفنية، فنلاحظ التشويهات التي لحقت بجميع المقامات والإيقاعات العربية في الأغاني الشبابية، وازدادت مع دخول نظام الديجيتال والليزر اللذين ساهما كثيراً في تسريع كمية الإنتاج الموسيقيّ والغنائيّ الخالي من المعايير العلمية الموسيقية، ابتداء من اللغة الشعرية والمقام الموسيقيّ وطريقة الغناء. ومن هنا يعود فيتساءل د. القيم، وتحت عنوان مقاماتنا الموسيقية اختفت؟ لماذا تفتقد موسيقانا العربية اليوم ذلك النظام المقامي الثابت وقد أصبحت المقامات تتساقط ويتناقص عددها بما لا يصدق بعد أن كان عددها يتجاوز 300 مقام، حتى أصبحت المقامات المستخدمة في وقتنا الحاضر لا يتجاوز عددها ستة أو سبعة مقامات فعلياً وهي: “الصبا- الرست- البياتي- الكرد- الحجاز- العجم- النهاوند” آسفاً لأننا على عتبة تلاشي وتحلل هذه المفردات في مواجهة المقامات الأوربية التي تنحصر في “المينور والميجور” الذي أفقد موسيقانا هويتها وسماتها المميزة وجعلها لا ترتبط بقواعد راسخة ولا بمقامات كنا حتى فترة قريبة نحسد عليها من شعوب العالم كافة.
ويختم د. القيم كتابه مؤكداً على أن الموسيقا في سورية تاريخياً غنية ومتنوعة وزاخرة بالعطاء والتجدد والتطور، ومشكلتها في وقتنا الراهن أننا أهملناها وتركناها مهملة وانصرفنا إلى غيرها من المشاغل، ولم تعد تشغل من انتباهنا إلا القدر اليسير، والقدر الباقي تشغله معها شؤون الحياة اليومية القاسية، على أن هذه الموسيقا قادرة بحقّ على أن تشغل كل انتباهنا، وتملأ كل فراغات أنفسنا لو قُدِّمت إلينا في صورتها المشرقة الكاملة.
أمينة عباس