ثماني سنوات على رحيله.. نجيب محفوظ كائن اللغة العابر لزمن الإبداع
في استعادته، واستعادة مدوناته: التاريخية، والاجتماعية، والفلسفية، والوجودية، والتي شكّلت على الدوام ذاكرة إبداعية فيها من التجاوز والاختلاف، وتلاقح الأساليب، والأشكال، والخبرات، والرؤى ما يترك المجال واسعاً اليوم للدرس النقدي العربي من أن يظل مشغولاً بإنتاج لحظاتها المعرفية، الإضافية.
فصاحب تلك المدونات التاريخية في مرحلتها الأولى، وصيرورتها تالياً، لتتصل بالمديات الفلسفية، ومنها على الأقل: «رادوبيس كفاح طيبة»، و«عبث الأقدار»، ومروراً بـ «ميرمار، وثرثرة فوق النيل »، و«أمام العرش»، لم يكن فيما صنعه، وهو الصانع الماهر لفن روائي عريق، سوى الشاهد على تحولات المدن، والعواصم، والأفكار، ذلك الذي كان يحفر داخل «النسق» ليولّد أنساقاً جديدة أكثر استجابة للحظة المعاصرة، والمعاصرة هنا ليست الحداثة، كما جاءت وفق سياقها، بل هي عين الرائي، وما تلتقطه، وما تفرزه من الألوان، والأصوات، وتموجات الذات، ونبض التاريخ، ونكهة الماضي، ورعشة الحاضر، واستشرافات المستقبل، ومن البيئات الاجتماعية، لاسيما بيئات المهمشين، وحكاياتهم التي خبرها مبدع بحجم نجيب محفوظ، والذي ذهب مديح النقد لكي يقول فيه: هو نجيب الرواية العربية، وبما ينطوي عليه ذلك المديح من توصيف لمشروعه الممتد حيوات، ومراحل، وصيرورات إبداعية مختلفة، والذي سيترك جدلاً واسعاً حول القضايا، والإشكاليات التي غالباً ما اعتملت في أعمال بعينها.
لكن اللافت فيما أنجزه –نجيب محفوظ- في استعادة القراءة ليس فقط استعادة الأزمان التي كُتبت فيها فحسب، بل استعادة مقولات مازالت صالحة اليوم للتداول بوصفها تغذي السجال من جديد، وعلى سبيل المثال ما يخص الرواية، ذلك الجنس الإبداعي المختلف، والذي أطلق عليه نجيب محفوظ تعبيره الفادح: هي «شعر الدنيا الحديثة»، فهل فتح الروائي أفقاً جديداً آنذاك لتأويل الرواية، ومصالحتها بالشعر، لاسيما أن السرديات الحديثة –وهذه معضلة- قد وقفت كثيراً في علاقة الشعر والرواية بتفسيرات، واجتهادات، وتصورات، ورؤى مازال السجال طابعها المميز؟.
وهذا ما تواتر في ضروب الممارسات النقدية حول مستويات العلاقة ما بين الرواية، والشعر من حيث الديوان المتجدد، أو المعاصر، وكيف نقرأ الشعر في الرواية.. على الأرجح أن روايات بعينها قد مزجت الشعر بالرواية، وفاض الشعر فيها، لكأنه متن آخر للأصوات والأحداث، لا يعيب سرديتها، لكن الخلاف كان في: هل يجوز ذلك أم لا يجوز، وعلى مستوى آخر كيف، ويلاحظ في هذا السياق في معظم الروايات التي كتبها الروائي المصري ادوارد الخراط، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: «حيطانها عالية، رقرقات الزمن الملحي، مخلوقات الأشواق الطائرة»، أن الروائي الخراط بثّ قيماً جمالية أكثر انتباهاً لوظيفة السرد في «شعرنته»، لتبقى الجملة وفق ما ذهب الخراط، وفي منظورها الروائي، هي جملة نابضة بالحياة، وملونة بالصور، وبشغفه الخاص، لكي يبوح من داخل اللغة، وليجعل منها صوته الآخر الذي يختزن كل إيقاعات الحياة، وتحولاتها، في مستوى بصري يرتقي بالذائقة القرائية، ويسائلها بآن معاً.
إن مسألة الشعرية هنا، والتي مثّلت على الدوام ذلك الهاجس الأكبر الذي ساور مبدعين في حقل الرواية، هي مسألة غير محسومة على الإطلاق، سواء بنتائجها، أو بضروب الطرائق التي توسلتها، لأنها فرضت إيقاع الحداثة، والحداثة في التصور الأخير كناية عن حداثات مستمرة في تجلياتها، وصورها، واشتباكاتها الدلالية.
والبحث عن الممكن الجمالي في هذا المجال هو أكثر من استحقاق تلك الحداثات، ومتغيراتها الزمكانية، ومن هنا بتنا ندرك أن الاعتمال بشعرية السرد هاجس روائيينا الدائم، هو الممكن الجمالي الآن، ممكن الرؤية المشروط، ووعي الحداثة، لئن تنتج ما يدل عليها، وليس ما يشي بها، فحسب.
واقع الحال أنه وقر في السرديات الحديثة هدم الحدود المحتملة بين أجناس الأدب كافة، لكن خصوصية الشعر أنه المجاور الأبدي للنثر، فهو إيحاؤه، وخلاصته الأثيرة التي تتبدى بتلك البنية الفنية المتماسكة والتي افتقدتها روايات عديدة، وعليه وفيما يوازي حضور الشعرية، لطالما ساءلنا المنجز الروائي الكبير حيدر حيدر، لاسيما في عمله اللافت «وليمة لأعشاب البحر»، في تلك المديات التي جعلت من اللغة اكتشافاً فريداً، مركب الدلالات، وأكثرها ثراء لإنتاج المعنى الذي يستأثر بالعقل، والوجدان معاً، بأفعاله الدرامية، وبفضل ما يفتحه المبدع هنا من “حدوس” اللغة على متخيلها ليزهو المعنى، ويصبح قابلاً للتأويل المثمر، بالانتباه لفاعلية اللغة السردية في مستوياتها كافة، فهل سمح ذلك للناقد الراحل يوسف اليوسف بأن يقول بالحساسية، أو الاسم الآخر لحرارة الذات بوصفها الينبوع الأوحد لكل صحة، أو حيوية في النص الأدبي، أياً كان نوعه، ولغيره من النقاد أن يقولوا باللغة العالية، أو تجلي الجميل، ليستوي في ذلك القول بالرواية ديوان العصر، وما اشتق من تعبيرات أدلّها ما الأدب العظيم؟.
أحمد علي هلال