عندما يساء التعاطي معها بقصد ضغط النفقات…
“الجودة” بين سِندان قراراتنا الحكومية ومطرقة اشتراطات تسويق ومنافسة منتجاتنا في الأسواق الدولية
لا شك أن السواد الأعظم من مجتمعنا عانى من تدني مستوى العديد من السلع المستوردة، وعلى سبيل الذكر لا الحصر الشواحن الصينية التي سرت في أسواقنا كالنار في الهشيم، إثر زيادة ساعات التقنين خلال سنوات الأزمة، ونكاد نجزم أن معظم بيوت السوريين أصبحت زاخرة بعشرات الماركات من هذا المنتج الرديء.
ولعل سرّ إقبالنا على تجريب هذه الماركات عسى أن نحظى بماركة تتمتع بمواصفات مقبولة، هو انعدام جودة جُلّ أصناف هذا المنتج وذلك نتيجة عدم اعتماد أي منها لشهادة جودة من أية جهة رسمية حكومية، أو منظمة مخوّلة إعطاء الآيزو أو ما شابه، والأخطر من ذلك أنها تحوّلت إلى نفايات خطرة أثقلت من أعبائنا البيئية، إذ يؤكد العارفون أن مُدّخرات هذه الشواحن تحوي مادة الرصاص السامة وهو المعدن السام الوحيد الذي تنتقل أعراض التسمّم به إلى الأجنّة…!.
ما سبق يدحض ما يشاع عن مفهوم الجودة من أنها (تندرج تحت إطار الترف والرفاهية وليس ضمن إطار الأولويات)، ولنا أن نتخيّل حجم الهدر والخسارة المحققين نتيجة استيراد بضائع لا تحمل شهادات الجودة والآيزو وإن كانت زهيدة الثمن مقارنة مع نظيراتها المشهود لها، ولنا في مثالنا السابق خير دليل..!.
واللافت بهذا الخصوص هو ما صدر عن رئاسة مجلس الوزراء مؤخراً من تعميم موجّه إلى جميع وزارات الدولة، فحواه –حسب بعض المصادر المطلعة– (ضرورة تأجيل الأنشطة المنفذة مع مركز الأعمال والمؤسسات السوري نظراً للظروف المالية الحالية)، علماً أن المركز يحتضن أنشطة البرنامج الوطني لدعم البنية التحتية للجودة، ليصدر لاحقاً ووفقاً لمصادر أخرى كتاب من رئاسة الوزراء إلى وزارة الصناعة، فحواه (يسمح باستئناف أنشطة البرنامج الوطني لدعم البنية التحتية للجودة وفق النظام الأساسي المالي للدولة).
نتفهّم ولكن..!
لا شك أننا نتفهم مَقصد رئاسة الوزراء من وراء التعميم والكتاب الآنفي الذكر، وأن صدورهما جاء في سياق ضغط النفقات وإعطاء الأولوية للمشاريع الإنتاجية والخدمية ذات الأولوية، ولكن نعتقد في الوقت ذاته أن تقييد أنشطة البرنامج الوطني للجودة بالنظام الأساسي المالي سيكون له انعكاسات -أغلب الظن– ليست محمودة على اقتصادنا الوطني، وخاصة إذا ما علمنا أن مجال عمل البرنامج بدأ يتسع شيئاً فشيئاً ليشمل معظم قطاعاتنا الاقتصادية والخدمية العامة والخاصة، ولاسيما بعد أن أنجز المشروع خلال فترة وجيزة ثلاثة أضعاف ما أنجزه من أنشطة وقت كان تحت مظلة الاتحاد الأوروبي، حيث موّل الأخير المشروع بقيمة 12 مليون يورو خلال فترة التنفيذ المحدّدة بخمس سنوات، ليقوم بسحب كل نشاطاته العاملة في سورية إثر العقوبات التي فرضها على خلفية الأزمة الراهنة، ولم يبقَ من أنشطته سوى البرنامج الوطني للجودة الذي حصل على تمويل من الحكومة السورية بقيمة 80 مليون ليرة سورية فقط.
مفارقة
واستمر البرنامج في عمله ضمن هذا التمويل المحدود نسبياً مقارنة مع التمويل السابق، وكان هناك نوع من ضغط النفقات توافق مع التمويل الجديد، إذ تمت الاستعانة بخبراء وطنيين نفذوا مهامّ فنية رفيعة المستوى بأجور زهيدة مقارنة مع نظرائهم الأوروبيين الذين كانوا يتقاضون ما بين 350 إلى 650 يورو يومياً!، وهنا بيت القصيد.. فوفقاً لمصادرنا يحتم النظام الأساسي المالي على إدارة البرنامج التعاقد مع الخبراء السوريين على مبدأ فرق الراتب، أي إن الخبير سيتقاضى بحدود 3000 – 7000 ليرة فقط شهرياً، (علماً أن أجور الخبراء السوريين كانت ما بين 20 – 30 ألف ليرة شهرياً قبل صدور الكتاب وفق أحد الخبراء)، مع الإشارة إلى أنهم على مستوى عالٍ يضاهي بل يزيد أحياناً على مستوى الخبراء الأوروبيين، على اعتبار أن الاتحاد الأوروبي لم يرسل سوى خبراء من مستوى متدنٍّ وكانت قيمتهم المضافة محدودة جداً!.
دلائل
ولتسليط الضوء على أهمية البرنامج ومدى انعكاس تقلص نشاطاته سلباً على اقتصادنا الوطني سنعرض مثالين، يتعلق الأول بسعي مديرية الإنتاج العضوي في وزارة الزراعة إلى تمكين المنتجين العضويين من الحصول على شهادة منتج عضوي في إطار نشاطات هذا البرنامج، لتأسيس بنية تنظيمية صحيحة تضبط قطاع الإنتاج العضوي في سورية وفق المعايير الدولية، حيث تم نهاية عام 2013 توقيع مذكرتي تفاهم بين الوزارة وكل من البرنامج الوطني لدعم البنية التحتية للجودة والمركز السوري لخدمات الاعتماد، بغية تأسيس القاعدة المتينة للإنتاج العضوي بما يتناسب مع المعايير الدولية ويضبط العمليات الأساسية لتأسيس شركات محلية عضوية، وعمل الشركات الأجنبية العاملة في منح الشهادات العضوية الداخلة للأسواق السورية، وبشكل يحقق لاحقاً دخول المنتجات السورية العضوية للأسواق الخارجية دون قيد أو شرط، وتسويقاً طويل الأمد لتلك المنتجات الحاصلة على شهادة منتج عضوي من جهة منح الشهادات العضوية المعتمدة مسبقاً من المركز السوري لخدمات الاعتماد، وذلك من منطلق تفعيل عجلة تصدير منتجاتنا الزراعي، ولاسيما إذا ما علمنا أن أوروبا –على سبيل المثال لا الحصر- تضع قيوداً مشدّدة جداً على المنتجات الزراعية غير العضوية، في حين أن العضوية منها والحاصلة على شهادة تؤكد خلوّها من المبيدات الكيماوية تنساب إلى أسواقها بكل يسر وسهولة بل بكل ترحيب، إلى جانب أن فارق السعر بين العضوية وغير العضوية يبدأ من 20% ويصل إلى 200% لمصلحة الأولى!.
المثال الآخر يتعلق بالطاقة إذ سبق أن نشرنا في صحيفتنا خبراً حول سعي مديرية الطاقة في وزارة الزراعة إلى الحصول على مواصفة الآيزو 50001 الخاصة بكفاءة استخدام الطاقة في المباني التي يمنحها البرنامج، وذلك بهدف تحقيق وفر لا يقل عن 25%، في زمن أحوج ما نكون فيه إلى الطاقة!.
معاناة..!
وأشارت مصادرنا إلى المعاناة التي يمر بها المنتجون والمصدّرون السوريون في ضوء صعوبة الحصول على شهادات اختبار لمنتجاتهم من مخابر معتمدة، في الوقت الذي نحن فيه أحوج ما نكون إلى تحسين فرص المنافسة لمنتجنا المحلي، سواء في السوق المحلية لمواجهة المستوردات الرخيصة الرديئة النوعية، أم في الأسواق الخارجية التي تصل منتجاتنا السورية إلى حدودها مرات بعد مرات وتعاد لخلل في الاختبار أو في شهادة المنتج أو في عملية التفتيش.
آخر القول..
نعتقد أن هذين المثالين يدلان على أهمية البرنامج كمكوّن وطني حقيقي كفيل بوقف الهدر وتحقيق وفر لاقتصادنا الوطني، عبر تطوير أداء مؤسساتنا العامة والخاصة، وإنشاء قاعدة من القيم والمعتقدات التي تجعل كل موظف يعلم أن الجودة هي الهدف الأساسي للمنشأة، وبالتالي لا بد من إعادة النظر بالتعاطي الحكومي مع البرنامج الوطني للجودة، وعدم تقييده بقرارات قد تحقق وفراً زهيداً على المدى المنظور، ولكنها ستفتح أبواباً كبيرة لهدرٍ ربما لا نستطيع إيقافه مستقبلاً.
دمشق – حسن النابلسي