ثقافة

انعدام الحياة وتلاشي الكون.. لماذا ومتى؟

عندما وضع “نيكولا ليونارد سادي كارنو” عام 1824 المبادئ الأساسية للقوانين الثلاثة للديناميات الحرارية، كان في حقيقة الأمر قد أرسى قواعد علم يربط على نحو واضح الفيزياء بالفلسفة، وعلم يصل نشوء الكون بتلاشيه، وعلم يعالج سهم الزمن الخاص بالديناميات الحرارية، وسهم الزمن الخاص بعلم الكون وهذا ما حاول تفسيره الدكتور هاني رزق من خلال محاضرته التي كانت بعنوان “انعدام الحياة وتلاشي الكون.. لماذا ومتى؟” في مجمع اللغة العربية بدمشق مبيناً أنه لن يكون على الأرض من يشهد الموت الحقيقي البارد الأعظم للكون، لأنَّ الحياة ستزول من كوكب الأرض بعد 4.6 مليار عام تقريباً، حيث ستنطفئ الشمس وتتحول إلى قزم أبيض.
في البداية عرّف عضو مجمع اللغة العربية قانون حفظ الطاقة والمادة والتعدمية مؤكداً أن قوانين الفيزياء تستعمل الزمن كجزء أساسي من متصلة (المكان-الزمان)، وغالباً ما تعالجه كمتغير على المدى القصير، وأن الديناميات الحرارية والتعدمية على وجه التخصيص تعالج الزمن كسهم، أو كجدول ينبع من نقطة تكون الكون، ويجري باتجاه واحد حتى نقطة تبخر الكون أو نهايته. وعبّر عن سهم الزمن بأنه سهم مستقيم يصيب كل شيء ونقطة انطلاقه الانفجار الأعظم الذي أنتج المادة قبل 798ر13 مليار عام وعمر الكون لا يمثل سوى جزء ضئيل من هذا السهم ونقطة انتهاءه تقع استنتاجاً وتقريباً في زمن سيأتي بعد مليارات السنين.
ويتابع د.رزق، ولئن كانت الحياة قد نشأت، وتطورت كي تبدع الكائنات الحية كافة، فليس لنشوئها وتطورها انتهاك ظاهري لسهم زمن الديناميات الحرارية فحسب، بل لأن سيرورة تكون الكائن الحي وولادته وديمومة حياته القصيرة لم تكن لتحدث لولا تمكن الحياة من توليد الطاقة الضرورية لبُقياها متمثلة (في السواد الأعظم من الأحياء) بطاقة كيميائية حيوية مختزنة على نحو أساسي بمركب يعرف بثالث فوسفات  الأدينوزين، الذي يقيها من الموت. فنشوء الحياة وتطورها وبُقيا الكائن الحي سيرورات تنتهك سهم التعدمية موضعياً ولكن على حساب زيادة مكافئة في تعدمية الكون كجملة مغلقة.
في علم المعرفة نتيجة استعمال السببية كسهم للزمن معضلة يصعب إدراكها، ذلك لأن العلاقة السببية بحد ذاتها لا يمكن إدراكها، ومن الصعب تقديم تفسير واضح للتعبيرين “سبب” و”نتيجة”، وما يعنيانه بدقة، أو تعيين الأحداث. وعلى أية حال، فإنه يبدو واضحاً تماماً أن سقوط كوب من الماء هو بالتأكيد سبب، في حين أن تهشم  الكوب وسيلان الماء هما قطعاً نتيجة. فإدراك السقوط (السبب) والتهشم والسيلان (النتيجة) هما فيزيائياً ظاهرة لسهم زمن الديناميات الحرارية ولتأثير الثقالة. فالتحكم بالمستقبل، أو التسبب في حدوث أمر ما ينشئ علاقة حتمية بين الفاعل والنتيجة. والبديهي أن هذا لا يمكن أن يحدث في الماضي (الذي لا سلطان لنا عليه بسبب سهم التعدمية)، إنَّما يمكن التخطيط لمستقبل معين كوننا نتحرك في الزمن دائماً إلى الأمام، ويمكن عندئذ اعتبار الانفجار الأعظم سبباً وأسهم الزمن هي مجرد نتيجة أو تأثير لهذا السبب الأولي أو البدئي. وكما هو بديهي في علم المعرفة، فالسبب يسبق النتيجة، والحدث المسبب يسبق دائماً الحدث الناتج، وبناء على ذلك فالسببية تتلازم تلازماً صارماً مع سهم الزمن.
لقد ترافق ظهور الإنسان العاقل قبل 250 ألف عام مع ظاهرة انبثاقية، وُهِبَ الإنسان بموجبها العقل، وتتمثل هذه الظاهرة بيولوجياً بخاصيات أساسية تميز الإنسان عن سائر الحيوان: ضخامة نمو القشرة الدماغية الجديدة وتعقد بنيتها وتقابلية إبهام اليد مع بقية الأصابع والبنية الفراغية ثلاثية الأبعاد للحنجرة إضافة إلى الثنيتين الصوتيتين وانتصاب القامة. وطالما أنَّ العقل (ظاهرة انبثاقية) وُهب إلى الإنسان؛ فهنالك سهم زمن نفسي إدراكي، أي إدراك الزمن، وينشأ من حقيقة أننَّا نملك الحس وأن الإدراك ليس سوى حركة مستمرة، تبدأ دائماً بالمعلوم (الماضي)، متجهة نحو المجهول (المستقبل). إنَّ توقع المجهول يكون ما يمكن تسميته المستقبل النفسي، الذي يبدو دائماً كشيء ما يتحرك المرء نحوه، ويماثل هذا الشيء خيالاً في مرآة تعزز الذاكرة مرتسماته الإسقاطية، متمثلة بالرغبات والأحلام والآمال. فسهم الزمن النفسي الإدراكي يقيم ترابطاً بين ما مضى من حياة المرء وأصبح خلفه، وبين ما سيأتي وما يزال أمامه. وغالباً ما تحدد إرادة المرء وثقافته وبيئته هذا الترابط، بيد أنَّ السيطرة على المستقبل تظل مجرد تخطيط، تحكمه عوامل متفاوتة، ويبقى هذا التحكم ممكناً إذا ما تمت مقارنته بالماضي، الذي يستحيل علينا أن نغير فيه حدثاً مهما كان صغيراً.
جمان بركات