ندوة “أضواء مَجمعيّة على مجالات الإصلاح” جهود الأوائل في النهوض باللغة العربية ونشرها
لمناسبة الاحتفاء بقرب اليوم العالمي للغة العربية أقام مجمع اللغة العربية في دمشق ندوة بعنوان “أضواء مجمعيّة على مجالات الإصلاح” على مدى يومين بحضور رئيس المجلس الدكتور محمد مروان المحاسني وأعضاء المجمع وعدد كبير من المثقفين والمهتمين ،ألقت الضوء على إنجازات المجمعيين الأوائل في ترسيخ جذور اللغة العربية والنهوض بها شارك فيها عدد من أعضاء المجمع ،وإن اختلف أسلوب عرضهم، إلا أنهم اتفقوا على أن اللغة العربية مسؤولية جماعية ،وأنها أمانة في أعناق الناس وعلى جميع الوزارات التنسيق فيما بينها لمتابعة عمل لجنة تمكين اللغة العربية.
الأمر الهام أن هذه الندوة لم تخرج بتوصيات لا تنفذ كحال كثير من الندوات ،وإنما خلصت إلى ما يشبه التوصيات بالتركيز على دور الإعلام المرئي والمسموع والمقروء بالنهوض باللغة ،وبضرورة متابعة التوصيات القديمة التي لم تنفذ حتى الآن , وعلى هامش الندوة أثار ارتجال د. السيد بعض أبيات من روائع الشعر العربي القديم والمعاصر قضية الاهتمام بالشعر لخدمة اللغة العربية ،كما تم الوقوف عند مصطلح الاشتقاق وربطه بالحاضر، ومصطلح كلمة الوسطية التي رفض وجودها بعض الحاضرين، إلا أن د.خسارة دافع عنها كونها تنسحب على أمور كثيرة في حياتنا .كما تمّ التنويه بالجهود الفردية التي قام بها باحثون من خارج المجمع في مجال فنّ المقالة للنهوض باللغة العربية .وقبل البدء بجلسات الندوة أشاد د. موفق دعبول الذي ترأس الجلسات في اليوم الأول بدور سورية التي حمت اللغة العربية وحافظت عليها ،وشاركه الرأي د. السيد الذي قال: سورية ستبقى درةً في الحفاظ على اللغة العربية.
معركة التعريب
قدم د. مازن مبارك في محاضرته (حركة التعريب وإسهامات الأوائل فيها)عرضاً سردياً شاملاً اتخذ فيه البعد التاريخي والتوثيقي للمساهمين الأوائل في حركة التعريب ،وقد أعجب الحاضرون بالمعلومات التي تضمنتها بنود محاضرته واقترح د. عبد النبي اصطيف أن تكون مخططاً لكتاب يوثق لهذه المرحلة الزمنية لاسيما أنه يمرّ ما يقارب قرناً من الزمن على تأسيس هذه الهيئة العريقة. وبدأ د. مبارك منذ عهد الملك فيصل عام 1918 إذ كانت قبل هذا التاريخ مدن الشام تموج بحركات وطنية وقومية تغذيها روح عربية نزاعة إلى إحياء اللغة العربية التي لم تدع لها اللغة التركية متنفساً، مما ولّد ردة فعل خلقت وعياً بتشكيل جمعيات ذات شعارات وطنية وقومية تدعو إلى التحرر، ورأى رجال الإصلاح أن في حياة اللغة العربية حياة للوطن ،فعملوا على نشر اللغة وتعليمها والإقبال على التأليف والتحقيق وتعميق الوعي وترسيخ الانتماء من خلالها ،ومن ثم أعلن المجمعيون ورجال الإصلاح بدء معركة التعريب وتغيير كل شيء من تركي إلى عربي ،وتعرض الأوائل للسجن والحكم بالإعدام غيابياً فلوحق التنوخي والزركلي وسجن محمد البزم ووصف الباحث بأن معركة التحرير واحدة وتوحدت جميع الانتماءات تحت سقف اللغة العربية، وركز د. مبارك على القرار الهام الذي اتخذ في المؤتمر العربي في باريس ونصّ على أن تكون اللغة العربية لغة رسمية في الولايات العربية، ثم تأسس مجمع اللغة العربية الذي تبنى الدعوة إلى الإصلاح والنهوض باللغة ،كما استمرت معركة التعريب بعد الاحتلال الفرنسي الذي وجد مقاومة كبيرة في سورية ولم يستطع فرض لغته فيها كما فعل في الجزائر ،و توقف عند تجربة خليل مردم بيك أول معلم للإنشاء ،وتحدث عن نشاط المجمع ونشره الفتاوى اللغوية والتعريفات للكلمات مثل الدائرة والديوان ،والمهرجانات التي كان يقيمها وتعم سورية مثل مهرجان المعري والصلات الجيدة التي أقامها أعضاء المجمع مع العلماء والباحثين العرب والمستشرقين ،وبما يشبه السيرة الذاتية تناول سيرة عدة أشخاص ساهموا بتطور مجمع اللغة العربية مثل محمد كرد علي.
لجنة تمكين اللغة العربية
واختار الدكتور محمود السيد أربعة أعلام (سليم الجندي وشكري فيصل وأمجد الطرابلسي وعبد الوهاب حومد) من أعضاء مجمع اللغة العربية كانت لهم إسهامات كبيرة في تأسيس جذور اللغة العربية في الحياة عامةً ،وأوجد محاور وقواسم مشتركة اتفقوا عليها ،فعمد في محاضرته التي جاءت بعنوان (أضواء مجمعية على مجالات الإصلاح) إلى استقراء المعلومات من الجمع والتحليل والتوثيق ،وفق خمسة بنود ،أولها في بناء البشر وتكوين الأطر: وهنا دعا المجمعي سليم الجندي إلى الالتفات إلى الأطفال لأنهم مستقبل الأمة وعمل على وضع كتب تعليمية لهم مثل “مرفد المعلم ومرشد المتعلم” والمنهل الصافي في العروض والقوافي، وشاركه الرأي المجمعي عبد الوهاب حومد الذي وجد أن بناء الإنسان وفق أسس سليمة هو أساس الإصلاح ،وسعى إلى إقرار مجانية التعليم الثانوي والمهني ونجح في ذلك بعد إقرار المادة التي وضعها في الدستور السوري ،وعمل أيضاً إلى تكوين الأطر الجامعية عندما كان وزيرا للمعارف وأوفد كوكبة من المتفوقين لسد حاجات الجامعة السورية ،ودعا إلى تقوية اللغة الأجنبية خدمة للغة العربية ،وفي هذا الإطار عمل المجمعي أمجد الطرابلسي على الإشراف على رسائل الماجستير والدكتوراه مركزاً على اعتمادهم أولاً على النصوص القديمة والمعاصرة ،ودعا المجمعي شكري فيصل إلى الإحساس بمسؤولية الكلمة وعزز منظومة من القيم في بناء البشر متمثلة بالوفاء .وجاء المحور الثاني بعنوان الجمع بين الأصالة والمعاصرة إذ دعا هؤلاء إلى الاعتزاز بالتراث وأن الإصلاح يتجلى في الربط بين التراث والحاضر ،وأكد فيصل أن التراث فهم لجذور الحاضر وتبيان لجوانب تراث الأمة اللغوي والماضي ،كما في بعض مؤلفاته مثل “المجتمعات الإسلامية في القرن الأول ،أبو العتاهية أشعاره وأخباره ،وعالج أيضاً في مقالاته والكتب المدرسية والفنية التي ألّفها موضوعات تجمع بين الأصالة والتجديد .وهنا وقف الطرابلسي على نقد الشعر عند العرب حتى القرن الخامس للهجرة وعمد إلى تعريف القارئ العربي إلى النقد العربي القديم وتفتحه على بعض المفاهيم النقدية والبلاغية المتداولة في أوروبا ،وركز على حركة التأليف عند العرب في مختلف المجالات وعمل بتحقيق المخطوطات مثل رسالة الصاهل والشاحج لأبي العلاء المعري ،أما الجندي فدعا إلى تعزيز الهوية الوطنية والقومية بإحياء الماضي المجيد للأمة فسلط الضوء على نتاجات عدد من أدباء الأمة مثل امرؤ القيس وابن المقفع و…،وفي هذا المجال عمل حومد على الاستفادة من اختصاصه القانوني فركز على الجوانب القانونية المعاصرة وألف مجموعة من الكتب القانونية مثل أصول المحاكمات الجزائية ،ثم تابع د.السيد محاضرته بمحور الإصلاح اللغوي إذ أسهم الجندي في تصحيح لغة الدواوين فعمل على تنقية اللغة من العجمة والركاكة ورأى أن إحياء اللغة يكون على توزيع الأعمال في ضوء اختصاصات الباحثين ،ودعا إلى نشر اللغة العربية في المدارس ودوائر الدولة والقضاء والدفاع في المحاكم وفي الصحف والتمثيل والأندية والجمعيات ،وأن تكون شرطاً للنجاح بالثانوية والتعيين في وظائف الدولة ،كما أسهم في تصحيح الأخطاء اللغوية ومن مؤلفاته: إصلاح الفاسد في لغة الجرائد ،وهنا ربط د. السيد بين الماضي والحاضر من خلال عمل لجنة تمكين اللغة العربية التي تعمل على تعزيز كل ما نادى به الجندي ،وفي هذا الباب رأى فيصل أن التطرق إلى ماضي اللغة وحاضرها ومستقبلها يقود إلى نوع من التداخل .وفي منحى آخر دعا حومد إلى تبسيط قواعد النحو وتسهيل الصرف والاتفاق على قواعد كتابة موحدة للإملاء ،وتمسك بالشعر الموزون. وبعد ذلك انتقل د. السيد إلى اعتماد المنهج الشمولي والنظرة المتكاملة في معالجة القضايا ،فدعا فيصل إلى دراسة أدبنا العربي وفق العصور والربط بين النقد القديم والحديث والتنسيق بين الجهات المعنية بالنهوض باللغة العربية ،ونبذ حومد الدراسة الأدبية وفق التقسيمات الإقليمية ،وفي المحور الخامس جنح د. السيد نحو تحليل الأحداث السياسية التي تساعد على التخلف وتراجع نهوض اللغة العربية فبدأ من احتلال العراق على يد القوات الأمريكية والقوى المتحالفة وتقسيم السودان والعدوان الإسرائيلي على لبنان وتمزيق الأمة العربية بما يسمى الربيع العربي. وأنهى محاضرته بأن الرابح الوحيد هو العدو الإسرائيلي.
الإحياء اللغوي والثقافي
وفي اليوم الثاني للندوة استمر الباحثون بتناول إسهامات الأوائل فتحدث د. ممدوح خسارة عن إنجازات الأمير مصطفى الشهابي الذي نادى بالدعوة إلى الوطنية والقومية في كتابيه محاضرات في القومية العربية ومحاضرات في الاستعمار ،وعمل على الإحياء اللغوي والثقافي بإنشاء الجمعيات الخيرية والتعليمية وافتتاح المدارس وتأليف الكتب المدرسية باللغة العربية، واهتم بالمصطلحات العلمية والزراعية ،ولم يكتف بذلك بل تابع نشاطه في النزعات الإنسانية والتحررية والوقوف إلى جانب الفقراء والبسطاء ومساندة المقهورين في العالم فترجم كتيب “تجارة الرق والرقيق”.
الاشتقاق أمر جوهري
وتابع د.أنور الخطيب الحديث عن إسهامات أمين الريحاني الأب المؤسس لما يسمى الأدب العربي الأمريكي والأدب المهجري ،دعا إلى التسامح الديني وانخرط في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي في مناقشات ومناظرات عامة مع قادة المنظمات الصهيونية في أمريكا وقد تعاطف الأمريكيون معه ،وعمل على إيصال صوت المثقف العربي المعاصر إلى العالم ..وتابع د. الخطيب محاضرته بالتطرق إلى الأديب جبر ضومط وهو أول خريج جامعي يحمل شهادة بكالوريوس علوم في الآداب وكان رئيس الدائرة العربية في الجامعة الأمريكية وأول أستاذ عربي فيها ،وألّم بالعبرية والسريانية ووضع كتباً للتعليم بأسلوب جديد مثل “خواطر في اللغة والخواطر الغراب في النحو والإعراب ،وتجلى الدور الأكبر له في الاشتقاق والقياس في تنمية اللغة العربية وتطورها ،ورأى أن الاشتقاق في كل لغة هو الأمر الجوهري فيها .والأمر الملفت الذي أثاره الخطيب هو وقوفه عند ماأعطته اللغة العربية إذ أعطت إلى لغات الأتراك والتتر والفرس والأردو ،وأعطت الألوف من ألفاظ المعاني والجمل التامة ،وأعطت لغات أوروبا الأرقام العربية ،وانتهت الجلسات بمحاضرة الدكتور محمد محفل الذي تطرق إلى مفاهيم الإصلاح والنهوض عند كامل عياد من خلال المنهج العام وبنظرة فلسفية لما تضمنه كتابه تاريخ اليونان.
دور الإعلام
في نهاية الندوة خلص د. السيد رئيس الجلسات في اليوم الثاني إلى أن الندوة ناقشت أفكار الإصلاح الشامل ولم تقتصر على دور الإصلاح اللغوي ،وأكد على المتابعة في ضوء الواقع بكل ما يحمله من عمل وأمل ،وأننا في أمس الحاجة لتجاوز العوائق وتنفيذ التوصيات والأفكار التي دعا إليها الأوائل ،لأن القومية العربية التي نتمسك بها قومية إنسانية وليست شوفينية ،وفي هذا الإطار دعا الأستاذ الدكتور محمد مروان المحاسني رئيس المجمع إلى عقد ندوة تدعو إلى تمثل عنوان جديد “ماضينا وحاضرنا…كيف نربط بينهما”
ملده شويكاني