ثقافة

الرومانسية المفتقدة في زمن الخيبات

هو علامة فارقة في السينما السورية كونه أكثر أبناء جيله إنتاجاً وحضوراً في الفيلم الروائي، لم يفقد بوصلته السينمائية وغزارة إنتاجه منذ إخراجه فيلمه الأول “ليالي ابن آوى” وحتى اليوم بفيلمه “العاشق” الذي قُدم مؤخراً بعرض خاص في صالة سينما سيتي بدمشق.
تعريف حميمي قدم فيه محمد الأحمد مدير عام مؤسسة السينما صديق عمره المخرج عبد اللطيف عبد الحميد، الملقب اليوم بـ”المخرج الشيخ” أو “المخرج الحكيم” سارداً قصة لقائه معه التي لم تكن وجهاً لوجه أو لقاء عمل، وإنما بدأت عندما لعبت المصادفة دورها أثناء عودته إلى دمشق عام 1988، في سيارة أجرة من اللاذقية، برفقة الفنان زهير رمضان، نقيب الفنانين اليوم، الذي كان يحمل مخطوطاً بين يديه فسأله ما الذي بين يديك، أجاب: إنه سيناريو فيلم “ليالي ابن آوى” للمخرج الشاب عبد اللطيف عبد الحميد الذي يخوض تجربة إخراج فيلمه الروائي الطويل الأول، وأضاف: بإمكانك الاطلاع عليه، وما إن بدأ القراءة بالقرب من “الكراج” حتى وجد نفسه أنهاها قبل الوصول إلى حمص، وكم كانت المفاجأة سارة بسيناريو لا بد أن يصنع منه فيلم كبير مميز بإنسانيته وعمقه وخفة ظله مبيناً فيه حبه الكبير لسورية بكل ما فيها، والتقى بعدها بالمخرج عبد اللطيف، وأصبح صديق العمر وتابع رفقته بتميزه معاقباً رحلة مخيلته العميقة والرائعة.
وبدموع تفيض من عينيه شكر المخرج عبد اللطيف عبد الحميد الجمهور الذي لم يقتصر على الفنانين والصحفيين فقط وإنما كان من كافة الشرائح، على حضورهم هذا العرض الخاص رغم وضع دمشق الموعودة بالصواريخ والقذائف التي تريد النيل من ثقافتها وإبداعاتها الفكرية وجاؤوا لتحدي كل هذه التهديدات مغامرين بحياتهم لرؤية فيلم “العاشق”.
في الواقع، “العاشق” فيلم يسرد تداخلاً في الأزمنة بين طفولة البطل وحبه الأول في قريته وبين الزمن الحالي في دمشق، فهو يتناول قصة حياة مخرج سينمائي “مراد” يصور فيلمه الأول ويقوم بمونتاجه ليعبر بنا من خلال ذاكرته في قريته الساحلية الصغيرة والمهمشة ويستعيد ذكريات طفولته ونشأته فيها ومعاناته. تعتبر قصة الحب في “العاشق” المحور الرئيسي للفيلم فتدور الأحداث من حولها من قصة حب الأول لـ”مراد” وما صاحبها من خيبات وآلام بعد أن تركته حبيبته ثم انتقاله إلى مدينة دمشق للدراسة وما واجهه فيها من ضغوطات جديدة وعلاقات تفرضها حياة المدينة، لتبدأ علاقة عاطفية جديدة  بجارته “ريما” الطالبة الجامعية الحسناء التي تعاني أشد المعاناة من معاملة والدها الفظة القاسية لها فهو يحبس أنفاسها ويراقب خطواتها.
معظم أفلام مخرج “رسائل شفهية” تدور حول الريف الذي تربى في كنفه، وظل هذا المكان بطلاً في فيلمه الأخير وهي نقطة إيجابية باعتبارها أماكن مهمشة سياحياً فوظف جمالها بطريقة إبداعية جعل المشاهد يتمنى أن يكون بين أحضان هذه الطبيعة الجميلة، مترافقاً مع الطعام الريفي الذي يعتبر أكبر دليل على بساطة أبنائه كمطالبة زوجته وابنته دائماً بسلق البطاطا وقليها.
لم يخل الفيلم من الرسائل السياسية الخفية فقد ركز الكاتب على فكرة المنطلقات النظرية لحزب البعث العربي الاشتراكي، وقد أراد فيها أن يؤكد على الشخصيات التي تنتمي إلى مختلف فئات المجتمع وطوائفه، لتؤكد على وحدة السوريين وابتعادهم عن الطائفية التي تطغى اليوم على الصراع الدائر في الأزمة التي نعانيها. وكان من المفاجئ أن يجمع المخرج عبد اللطيف عبد الحميد في نهاية فيلمه بين شعار أطلق في بداية الأزمة “واحد.. واحد… واحد…الشعب السوري واحد” وبين شعار الحزب البعث العربي السوري “أمة عربية واحدة… ذات رسالة خالدة، أهدافنا: وحدة حرية اشتراكية” التي بقي ينادي بها منذ نعومة أظفاره وأسسها مع أناس بسطاء وفقراء مثله، وهو دليل قوي على أن الحزب انطلق من عندهم، ولكن للأسف يبقى “أبو نزار” يستخدم حنجرته وصوته القوي حتى كبر وهو يردد الشعار متأملاً أن يتحقق شيء مما يقوله على مدى سنوات طويلة.
في النهاية، كان هناك بالطبع ما يمكن استبعاده من الفيلم، فقصة الحب كانت لطيفة “خفيفة نظيفة”، مع وجود توقعات بأن تكون أعمق، ولكن “الحب” هذه المرة مر مرور الكرام دون عقبات أو ثغرات جديدة تستدعي التفكير العميق، فالحل بالنسبة للبطلين “عبد المنعم عمايري، مراد” و”ديمة قندلفت، ريما”  كان واضحاً وسهلاً وهو الهروب معاً والزواج دون التفكير بأي عقبات تعترضهم أو حتى خوف القتل من قبل والد “ريما”. ولكن يبقى الانطباع الجميل هو لحظات الضحك التي اعتدنا عليها في الأفلام السابقة للمخرج العبقري، والتي انتظرناها في كل مشهد عُرض، في أكثر الظروف مأساوية والقصد منها الظروف الأمنية السيئة ليلة عرض الفيلم.
جمان بركات