ثقافةصحيفة البعث

قسطاكي الحمصي.. أوّل من أدخل النقد الحديث إلى بلاد الشام  

قدمت مدينة حلب كثيراً من الأسماء التي كان لها أثر كبير في عملية التنوير والنهضة. وعلى سبيل المثال، نجد عبد الرحمن الكواكبي وميخائيل الصقال وبشير الغزي وفرنسيس مراش وجبرائيل دلال وراغب الطباخ وقسطاكي الحمصي وغيرهم.

هؤلاء أغنوا مدينة حلب والمنطقة العربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ومطلع النهضة العربية الفكرية والسياسية والأدبية، وكان قسطاكي الحمصي أوّل من أدخل مفهوم النقد بشكله العلمي الحديث إلى بلاد الشام، فهو يرى أن النقد لم يتعد ما كتبه علماء البديع وعدد من العلماء القدماء، وظل كسائر العلوم والفنون العربية في هجعة هي أشبه بالموت منه بالرقاد، ورأى أن القرون الوسيطة كانت مقيدة محدودة، والأفكار محصورة بمنطق الاستبداد، وظل كذلك إلى أن جاء زمن الانبعاث العلمي في إيطاليا، فحرّر العقول من الاسترقاق لبعض العلوم وأطلق الإنسان من ظلم العبودية.

ثم يصل إلى العصور الحديثة، ويعرض لتحرّر كتّابه وفلاسفته حتى من تقاليد عصر الانبعاث المعروف باسم “عصر النهضة” الذي رأى في نقد أصل اللغات كمال النقد وغايته.

قسطاكي الحمصي هو شاعر من الكتاب النقاد، وُلِدَ في حلب في شباط سنة 1808 وتوفي فيها في 29 آذار 1941، وأصل العائلة من حمص، هاجر أحد جدوده إلى حلب في النصف الأوّل من القرن السادس عشر، فقد هاجر كثير من أهالي حمص وتفرقوا في سائر المدن، وكان بينهم ميخائيل مسعد سنة 1517، وهبط إلى حلب وسكن فيها، ولزمته النسبة كما لزمة سلالته. وقد تعلّم في أحد كتاتيب الروم الكاثوليك، ثم بمدرسة الرهبان الفرنسيسكان، وبقي فيها 15 شهراً، ثم انصرف إلى التجارة، فتعلّم مسك الدفاتر وحساب “الزنجير”، وهو المعروف بحساب الدوبيا، وقد جمع ثروة كبيرة، ليرحل مع أخويه وبعض أقاربهم إلى مدينة مرسيليا، وفيها بيوت أعمامه، وغيرهم من آل الحمصي، واستقر في باريس مع عدد من أهله بعد انتشار وباء الطاعون في حلب، فعكف خلال ذلك على درس اللغة الفرنسية، فأحسنها وأجادها، كما يجيدها الفرنسيون، وقد أرّخ لحياته، “فهو أديب أولع بالعلوم، قد ضرب في سهمي المنثور والمنظوم، وهو من العلماء المحققين وجهابذة أهل النظر الراسخين، مهذب العبارة، حسن الإشارة، فصيح اللسان، فسيح البيان، غزير المادة، واسع الحفظ، جميل الخط، صادق العهد، جميل الودّ، مأمون المغيب، رقيق الحاشية، مليح النكتة، فكيه الأخلاق، سريع الفهم، ملتهب الذكاء”.

أمّه سوسان الدلال وهي شقيقة الأديب والشاعر جبرائيل الدلال، وقد اعتنت به، فقد توفي والده وهو ابن خمس سنوات، وفي زيارته الثانية إلى باريس التي قضاها بصحبة خاله جبرائيل الدلال، وكان يعرف باريس جيداً، فتعرف فيها على أم الحضارة وزار الأماكن التي لها الأثر في الحضارة الإنسانية، وحين عاد إلى حلب قرأ كثيراً من الآداب الغربية والعربية، وقد قال عن نفسه: “كان لا يطالع غير كتب الفصحاء حتى صار يأبى قراءة كتب غيرهم”، لقد فتح عينيه على تجارب العالم وخبراته، وتشكل وعيه الثقافي والفكري ضمن هذا الوعي، فقد زودته فرنسا في معرفة الفكر والثقافة والأدب والفنون، والحراك السياسي في الغرب.

يقول في مقدمة كتابه “أدباء حلب ذوو الأثر في القرن التاسع عشر” إننا لم نتعمد في هذه الرسالة إلا ذكر أدباء القرن التاسع عشر من الحلبيين، أي من كان له شعر معروف أو وصل إلينا شيء من شعره، وكذلك كانت له مشاركة في طائفة من العلوم والآثار المشهورة، ولم نتعرض لترجمات الفقهاء وعلماء علم بعينه كالنحو والطب”.  وقد ترجم في هذا الكتاب لحياة وشعر حوالي خمس وأربعين شاعراً، فقد كان يبدأ بأوصاف المترجم له، كما فعل مع الخورفسقفوس جرجس شلحت، “فهو معتدل القامة إلى الطول أميل، ممتلئ الجسم إلى السمن، قوي البنية، وضاح المحيا، صبيح الوجه، أسود العينين واسعهما، معتدل الأنف والفم، أسود الشعر قد وخطه الشيب قليلا”ثم يتابع في تاريخ حياته وشعره.

يتنوع شعره بين المديح والوصف والفخر والرثاء والغزل والتعبير عن القومية العربية والممارسات الاجتماعية، ويميل في شعره إلى الحكمة والفلسفة والوطنية والتعبير عن النفس وهمومها، ويؤرخ للأحداث السياسية، وله ديوان شعري غير مطبوع كان ضائعاً بين أوراقه، كتبه بخط فارسي جميل، وكان يحبّ الموسيقا والغناء والهندسة والتصوير والخط الجميل، وكان شديد الاعتزاز بعروبته، وقد زار بيروت، وتعرف فيها على علمائها وأدبائها وشعرائها، وكان مأخذه عليهم هو تفاخرهم بهذه الفينيقية، كما كان يقول عنهم.

أعلنت الحرب الهائلة، وكان من بين عشرة أشخاص يقومون بإدارة المصالح لحفظ الأمن والراحة في مدينة حلب، وقد صار صديقاً لمحمّد كرد علي وتبادل معه الرسائل الأدبية، وكتب في مجلة المجمع العلمي كثيراً من المقالات في الأدب واللغة، إضافة إلى الهلال والآثار، والمقتبس، والنفائس المصرية، ثم تألفت الحكومة العربية في دمشق، واختارته عضواً في مجلس المؤتمر، وخلال ذلك  ترك عمله في التجارة ورحل إلى فرنسا وانكلترا وإيطاليا، ومصر.

وله ديوان شعر كبير لم يطبع، قال في مقدمته في وصف الشعر:

اخلع نعالك يا كليم فأنت في              أرض مقدسة بنفس والهــــــــــة

وإذا سمعت الشعر فانزع ستر رأسك         خاشعاً فالشعر نطق الآلهة

“فالشعر هو سرّ من أسرار الألفاظ لا يلج في الأسماع إلا ويملك من الأفئدة العنان، فيصرفها كيفما شاء هدى أو ضلالا فهو لا ريب فيه رب البيان”.

كرّم في مدينة حلب، فأطلق اسمه على أحد شوارعها في وسط المدينة عام 1970، ووضع له تمثال في وسط ميدان الحرية في حلي العزيزية في حلب، وتحوّل بيته إلى متحف بجهود حفيده.

مؤلفاته 

السحر الحلال في شعر الدلال، مطبوع في القاهرة عام 1903، في سيرة خاله.

منهل الوراد في علم الانتقاد، مطبوع في القاهرة عام 1907، وهو في 3 أجزاء.

أدباء حلب ذوو الأثر في القرن التاسع عشر مطبوع في حلب عام 1925.

فيصل خرتش