ثقافة

“زيارة ذاتية” أول مسرح جسدي لرواية “الحمامة” في العالم

بعد عرضه على خشبة المسرح أول مرة كمسرحية درامية يعدّ عرض “زيارة ذاتية” والذي قدمه مؤخراً في دار الأوبرا الفنان حسين خضور، مخرجاً ومؤدياً، أول عرض مسرح جسدي لرواية “الحمامة” في العالم، وهي رواية شهيرة لباتريك زوسكيند صاحب الرواية الأشهر “العطر”.
على الرغم من أن الكلمة كانت هي البدء، إلا أن هذه الجملة التي كثيراً ما نكررها تبدو غير مستساغة عند بعض التيارات المسرحية التي تستبدل فيها الكلمة بالأداء الجسدي محاولة منها لخلق لغة مسرحية محورها لغة الجسد. من هنا وعبر عرضه المسرحي الجسدي الصامت دعانا  خضور وعلى مدار أيام ثلاثة  للولوج في العوالم النفسية المتناقضة لبطل العمل الذي أصبح في الرابعة والخمسين من العمر، وقد أمضى معظمها وهو يعمل حارس مصرف في باريس كان قد عاشها بهدوء وحياة رتيبة ثابتة، ويستمر على هذا المنوال حتى يستقيظ ذات صباح فيجد في داره حمامة تكون السبب في إعادة نظره بمسار حياته التي عاشها وما يزال بكل رتابة وروتين، فيعيش الجمهور من خلال العرض الذي استغرق بالوصف البطيء والمعتنى به كثيراً لسلوكيات هذه الشخصية الانطوائية تفاصيل هذا اليوم متابعاً هذياناته وتنامي الهواجس والوساوس عنده  لدرجة التفكير بالانتحار، وللوهلة الأولى تبدو هذه الشخصية غريبة وليست منا، ولكن شيئاً فشيئاً يدرك كل واحد منا أن ما يعيشه هذا الرجل هو حال العديدين منا ولاسيما في الوقت الحالي، حيث الإحساس يكبر بلا جدوى ما نفعله، مبيناً خضور في حواره مع “البعث” أن ما شدّه في الرواية بالدرجة الأولى هو مهنة الشخصية التي يركز عليها النص من خلال شخصية حارس المصرف لقناعته بأنها أكثر مهنة فيها ما هو روتيني بشكل قاتل، وهذا ما نكتشفه في “زيارة ذاتية” حين يضع هذا الحارس كل أسئلة وجوده بعد سنوات طويلة من العمل في هذه المهنة والشعور بلا جدوى حياته، مؤكداً أن كثيرين منا يشبهونه حين يعملون و يقومون بأشياء كثيرة دون أن يتركوا أثراً في ظل ضغوطات كثيرة يتعرضون لها  فتتراكم الأمور وترخي بثقلها على الإنسان ليظهر ذلك الموقف الواضح منها في توقيت معين بعد أن يكون الكيل قد فاض فيه بفعل مؤثر معين قد لا يبدو ذا قيمة، وبالتالي فإن الحمامة كما في “زيارة ذاتية” نجحت في تحريضه لأن الأشياء في داخله قد تراكمت وتفاقمت وأتت في الوقت المناسب لينفض الغبار عن أسئلة لمشاكل كثيرة تراكمت عنده دون حل.
مسرح حديث تاريخياً
يرفض خضور اعتبار عرضه الجسدي “زيارة ذاتية” مغامرة بالمعنى الحرفي للكلمة، خاصة وأنها أتت بعد تجارب كثيرة كان قد مر بها واستفاد منها ولا سيما على صعيد التكنيك، ولا يخفي أن تحويل الرواية إلى عرض جسديّ كان تحدياً كبيراً في ظل عدم وجود تجارب جسدية سابقة يتم الاتكاء عليها، منوهاً بالدور الكبير الذي لعبته الدراماتورغ هبة محرز التي كانت بمثابة بوصلة لنقل النص الروائي إلى خشبة المسرح، مبيناً أن الصعوبة كانت في تضييق الرواية وتبيئتها، وقد أخذ هذا الأمر فترة طويلة استمرت لمدة عشرة شهور كان فيها الشغل الأكبر باتجاه الناحية النظرية لصياغة سيناريو يتم الاتكاء عليه جسدياً فيما بعد، مشيراً خضور إلى أن الصيغة الأولية للعرض كانت قد قُدِّمَت على نطاق ضيق في وقت سابق وقد تم الاستفادة من كل الملاحظات التي أدلى بها حينها ليتم الانتقال فيما بعد إلى صيغة نهائية تم تجاوز الكثير من الأخطاء فيها ليكون العرض الذي قُدِّم مؤخراً، شاكراً دعم الأستاذ أسامة غنم والمساعدة ديمة أباظة.

ارتباط وثيق بالبيئة الاجتماعية
وعلى الرغم من أن تجارب المسرح الجسدي قليلة جداً عربياً وعالمياً وهو مسرح حديث تاريخياً لا يتجاوز عمره 50 عاماً، يوضح خضور أن أهم ما يميز هذا النوع من المسرح ارتباطه الوثيق بالبيئة الاجتماعية وهو وإن بدا غير واقعي في شكله إلا أنه يستند في جوهره على ما هو واقعي، وبذلك يختلف عن الرقص المعاصر في تركيزه على الذات، معترفاً في الوقت ذاته أن هذا المسرح الذي لا كلام فيه سوى للجسد قد يخسر الكثير مما يريد إيصاله في حال لم يستطع الجمهور أن يترجم لغته، مشيراً إلى أن ضآلة جمهور هذا النوع من المسرح لا يحبطه انطلاقاً من معرفته بأن المسرح الدرامي كان فناً جديداً وكان جمهوره قليلاً في البداية، وهذا شأن كل الفنون في بداياتها، وهذا يعني بالنسبة له أن العاملين في هذا المسرح والمؤمنين به يجب أن يعملوا كثيراً ليصلوا إلى النتيجة التي يتمنونها في إيصال هذا الفن إلى أكبر شريحة ممكنة من الجمهور.

الدراماتورجية تقتحم عالم الرقص
أما هبة محرز والتي عملت في العرض كدراماتورغ وكخريجة من المعهد العالي للفنون المسرحية قسم الدراسات المسرحية فتؤكد أنها واجهت منذ اللحظة الأولى لقراءة نص “الحمامة” مجموعة من العقبات تبدأ من البحث عن الترجمة الأفضل للنص، إلى لحظة كتابة نص جديد مبني في مرحلة ما على النص الأساسي، مشيرة إلى أنها وبعد البحث المطول مع المخرج تم التوصل إلى ما يشبه العمود الفقري للنص الجديد، ثم بدأت العمل على كتابة نص يشبه الواقع السوري، موضحة أنه في البداية كان النص الروائي الأساسي يحمل الكثير من التفاصيل عن عالم الشخصية،  ويخبرنا مع سير هذا اليوم الاستثنائي أحداثاً عن ماضيه البعيد، ومن هنا كان التحدي الأول الذي تجلى في البحث عن خط سير الحكاية التي سوف تظهر على الخشبة وتحييد ما يمكن تسميته فعلاً ثانوياً للتركيز على الفعل الأساسي، لذا كانت نصوص المسودات الأولى لنص العرض عبارة عن حكاية فعل بعيداً عن العالم الداخلي للشخصية، مبينة أن المسودات المتعددة كانت بسبب خصوصية العرض الذي لا كلام فيه ولا حوار، وبعد التأكد من خط سير الحكاية المقصودة بدأ البحث كما تشير محرز يتركز على البطل الوحيد في العرض، وهنا تم العمل إلى حد ما كما يتم مع الممثل العادي، حيث تمت كتابة قصة حياته ما قبل لحظة الفعل الأولى، والبحث عن جميع الأحداث التي تعرضت لها هذه الشخصية خلال حياتها، وبعد أن اكتملت الشخصية الدرامية بدأ العمل على تصويرها كيريوغرافياً مع أ.حسين خضور وإظهار اللحظات المهمة في حياتها عبر تكوينات جسدية معينة.
وتختم محرز كلامها عن العرض مؤكدة أن الخصوصية الأولى في هذا العرض أنه نوع جديد في سورية نسبياً فالمسرح الجسدي لدينا هو مسرح بكر نوعاً ما، وليس هنالك من سوابق مجربة في خوض غمار هذا النوع، ثم إن استخدام مفهوم الدراماتورجية الحديث نسبياً في المسرح الدرامي بدأ يصبح أساسياً، غير أنه من المرات القلائل التي تقتحم الدراماتورجية عالم الرقص لتصنع معه حالة درامية راقصة أقرب للواقع لدينا وأكثر التصاقاً به، في حين أن الخصوصية الأخرى كانت برأيها في تحويل رواية للمسرح الجسدي، خاصة أن هذه الرواية لم تقدم على خشبة المسرح إلا مرة واحدة، وكان عرض”زيارة ذاتية” هو المرة الثانية في العالم، والمرة الأولى عربياً والمرة الأولى على صعيد المسرح الجسدي.

كادر العمل:
التأليف الموسيقي: حسين عطفة
سينوغراف: ولاء طرقجي
دراماتورغ ومساعد مخرج: هبة محرز
أمينة عباس