ثقافة

أمّا النشيد..

بشرى الحكيم

ليس بالأمر الجديد أن لجوء بعض الفنانين إلى إعادة تقديم الأغاني والأعمال الفنية القديمة، سواء كانت هذه الأعمال تعود لهم بالأساس أو أنها تخص سواهم من الفنانين، كما في الموجة التي ركبها الكثير في إعادة إحياءٍ لأعمال الفنانة صباح أو فايزة أحمد وعبد الحليم حافظ وحتى أغاني أم كلثوم، التي استبيحت أغانيها من قبل العديد من هواة الطرب والغناء الذين يتلمسون الطريق لوضع أقدامهم على الدرجة الأولى في سلّم الغناء والشهرة، فنجح بعضهم ونجا؛ بينما كان الفشل مصير آخرين، كما لجأ إليها فنانون لهم أسماؤهم ونوعهم الغنائي، كما في حالة ماجدة الرومي التي غنت عبد الحليم حافظ في بعضٍ من أغانيه الراسخة في الذاكرة فكانت نوعاً من تكريم للأغنية وصاحبها الأصلي.
وكما في جميع المسائل الجدلية تقابل هذه الحالات بالآراء المتباينة والمتناقضة بين مشجع لها ومدافع عنها وبين مستنكر “هل سأل أحد عن ذاكرتنا التي تسحق بين هذا وذاك”.
البعض رأى فيها حالة صحية تعيد الفن الجميل الراقي إلى الساحة الفنية التي باتت تغص بالكثير مما يشوه الأسماع، ودليل على تنامي شريحة جمهور واعٍ يتمتع بذائقة فنية قادرة على التمييز بين الهابط والراقي من هذا النوع من الفنون.
إلى ذلك رأى آخرون فيها لفتةً تكريم لفنانين تصدّوا للكثير من المعوقات في أزمانهم كي يتركوا لنا إرثاً فنياً راقياً من خلال مشوارهم الطربي.
وذهب آخرون للقول بأن في إعادة أغاني الغير، اعتراف ضمني بضياع الهوية وتشتتها؛ وتفوق التجارب القديمة، كما أنه نوع من التعدي على الحقوق؛ إن لم يصنها القانون فعلى الأخلاق أن تفعل، ناهيك عن التغيير والتعديل وربما التشويه الذي يطال الأغنية في حال إعادة التوزيع، بينما تتكفل الأيام في انتشارها وتغييب الأصل دون أي اعتبار لذاكرتنا.
كل ما سبق يحتمل القبول أو الرفض حرية الخيار ولكن؛ بخصوص النشيد –والوطني- تحديداً فهو أمر آخر، فبينما تتسابق بعض القنوات ومواقع التواصل الاجتماعي في نشر نشيد موطني بتوزيعه الجديد، فالحال يختلف، ولا يتعلق الأمر بالصوت الذي يعيد ولا بالفنان الذي يقدم ولا بانتمائه السياسي، لا يتعلق بالخفة والدلع والصورة التي قدم بها، الأمر أنه ليس أغنية حب أو غزل، لكنه النشيد، وكل نشيد يفقد قيمته متى فقد إيقاعه كما ألفته ذاكرتنا، فقد إيقاعه من حيث موسيقاه والآلات التي رافقته والصوت الذي قدمه، فأدى رسالته في حينها، في هز مشاعرنا من الأعماق، وشكل وعينا الوطني المبكر، في مرحلة تشبه هذه التي نعيشها اليوم من محاولات التشتيت وتدمير النفوس قبل البيوت والحضارات.
صديقة لي كتبت، وقد جرّح ذاكرتها ما يحدث لتراثنا من تشويه: “ابعدوا جنونكم عن تراثنا، النشيد وجد لأيام كالتي نعيشها الآن من انهيار وتشتت ويأس وعلينا الانتباه جيدا إلى أمور قد تبدو ليست ذات أهمية “مصيرية” في ظل الكوارث التي تحل بِنَا؛ ولكن التلاعب بها وتحريفها وتمييعها يندرج في سياق تمييع وتحريف وتشتيت قضايانا الكبرى.
انه زمن النشيد! فلنعلمه لأولادنا، ونعيده إلى المناسبات .
انه زمن النشيد! فلندعه يهز مشاعرنا من الأعماق قبل أن تتيبس”
وربما علينا حمايتها، قبل أن يلحق الجفاف بنا، وقبل أن تُلغى الذاكرة.