د . حسن حميد في ندوة الأربعاء التشكيلي: أدعو لصداقات الفنون وصداقة الحيز الواحد قائمة على حروب مضمرة
في نهاية الستينيات من القرن الماضي ومطلع السبعينيات منه وبالتحديد في مخيم جرمانا للاجئين الفلسطينيين كان الفتى الأسمر يقيس عرض الزقاق بين الخيام الذي لم يتجاوز 75 سم من الاسمنت، وهو الممر الإجباري لشخصين من الممكن أن يكونا متخاصمين، فلا بد حينها من المرور بطريقة مواربة ولابد من ارتطام الأكتاف مما يحتم إفشاء السلام بينهما، كحال فرضه الزقاق الضيق كفضيلة من فضائل المخيم، هناك عاش الروائي حسن حميد الذي كتب عن مخيمه وعن حلم شعبه وعن فلسطين، ورصد حالة الإبدال في الحلم والعيش حيث تختصر بيارة البرتقال اليافاوي أو حواكير القرى بعلبة أو صفيحة تزرعها النسوة بالنعنع أو الحبق لتؤنس غربة المكان وتغير من الطارئ الذي حل ثقيلا وطويلا على أهله.
من هذا المكان الاستبدالي والمضمر بفرادة تبلورت حواس الفنان والأديب الذي يرسم مشهدياتها المؤلفة من ملايين الصور الصغيرة المتراكمة لتولد في نصه روحا مفتوحة على التعبير والسعي لامتلاك أدواته. وقد استضافت ندوة الأربعاء التشكيلي الروائي حسن حميد متحدثا عن تجربته الإبداعية في حضور عدد من الفنانين التشكيليين، في خطوة لفتح قنوات حوارية إبداعية جديدة بين أهل التعبير، فمن الأهمية أن يتحدث روائي لفنان تشكيلي أو أن يتحدث فنان تشكيلي أمام عدد من الموسيقيين أو المسرحيين،وستكون هذه الصداقات أشبه بالنزهة في قوارب الآخرين والتعرف على جماليات جديدة متاحة ورافدة، وفي هذا الاتجاه بدأ الأديب حميد حديثه في الندوة داعيا إلى تعزيز صداقات الفنون التي لا نراها اليوم، فهي تختلف عن صداقات الحيز الواحد كالروائي والروائي أو الفنان التشكيلي والفنان التشكيلي مما يدل على ضحالة البعض وركاكة وعيهم، وهذه الصداقات في أغلبها قائمة على حروب مضمرة فيما بينهم.
الرواية والرسم
يرى الروائي حسن حميد أن النص الذي لاينقل القارئ بالدهشة والمتعة والتشوف من حيز لآخر من خلال الحوار هو نص فاشل، والكتابة يجب أن تكون غنية بالتصوير، وعلى النص أن يكون محملا بالفرادة والرؤية والقضية والموقف وكذلك اللوحة يجب أن تكون محملة بقضيتها مثلها مثل الرواية ، وما أعمال الفنان لؤي كيالي إلا بما تمثله من حمولة إنسانية ومن شجن بليغ ومن أسئلة تصفع، فأعماله اليوم موجودة أكثر من أي فنان يرسم على قيد الحياة الآن، كذلك الأمر عند الفنان الراحل فاتح المدرس.
وأكد حميد على دهشة الفن التشكيلي والوفرة في اللوحة وفي عوالم الفنان التشكيلي العجيبة، فلا يمكن إخراج الفن التشكيلي من عالم الدهشة، مما دفع بالأديب إلى قراءة تجارب عدد من الفنانين التشكيليين ليقينه بأن الأديب لا يمكن أن يكون دون معرفته بالفنون التشكيلية وإيمانه بوحدة الفنون، وأشار إلى التصوير في كتاباته القصصية، حين أكد اهتمامه بالجانب التراجيدي من المشهد والأمر نفسه في اللوحة و”الغيرنيكا” من أهم روايات الحرب والألم الإنساني.
وقد صور الروائي مشهد من فلسطين في إحدى رواياته “أربعاء البركة” حيث تذهب النساء ليلة الأربعاء إلى الشريعة – نهر الأردن – المكان ا لذي تعمد فيه السيد المسيح والنبي يحيى، يطلبن الخصب والإنجاب، فيلبسن الأبيض الطاهر ويوقدن الشموع، وتثبت الشمعة على قطعة من الخشب لتتمكن من الطواف على وجه الماء في لوحة تشاهد المئات من الشموع المضيئة النازلة من أعلى منحدر النهر جنوبا بالترافق مع تهليلات النسوة والأدعية الممزوجة بالبكاء والرجاء في مشهدية سحرية رسمها الأديب في روايته.
وطالب الكاتب نقاد الأدب بالحديث عن النص والروح في المشهد النصي أو ما يطلق عليه علم النص، والأمر ليس مشروطا بالكتابة فقط بل يجب توفره عند الفنان أيضا في إشارة إلى تقارب الفنون في تجوالها المبدع.
وأصر الكاتب على دور الكتابة واستقائها من منابع الثقافة كالأسطورة كونها تمد الكاتب والفنان بمكامن للمعرفة والقيم الإنسانية، وطالب المبدع بتحمل مسؤوليته كونه يكتب لقضية كبيرة، ففلسطين تستحق أن يكون لها كتابا وفنانين، مثل إسماعيل شموط وتمام الأكحل وناجي العلي ومصطفى الحلاج ومحمد الوهيبي وغيرهم، وهذه البلاد العريقة بالتراث نحن أبناءها المشدودين بمشيمتها في مواجهة الصلف والإدعاء الصهيوني الكاذب.
علبة الألوان
يحتفي الكاتب بالموهبة ويعتبرها لغزا من ألغاز الخلود، وكم كان يتمنى في طفولته لو كان رساماً، وبالفعل فقد أعادنا بحديثه إلى أيام المخيم حين اشترى من مدخراته علبة الألوان الزيتية وهو الذي لا يعرف عن الألوان إلا المائية منها، فقد كانت تجود به وكالة الغوث ومدارس الأونروا على طلابها في المرحلة الإعدادية، أما الزيتي فلم يسمع به إلا من أستاذ الفنون في ثانوية تل الفخار في حي باب توما حين قال شيئاً عن اللوحة الزيتية، مما حدا بحسن حميد أن يشتري ألوانا زيتية من دكان أبو جورج وطبقا من الكرتون ويبدأ في الخيمة برسم لوحته الزيتية العتيدة، يقول: “رسمت على الوجه الناعم من الكرتونة يقول حميد لكن الألوان لم تعلق جيداً مما دعاني أن أرسم على الوجه الآخر الخشن وأستعمل قليلا من زيت المطبخ الذي تحفظه أمي في إناء، وبالفعل بدأت بغمس الفرشاة بزيت الطعام وببعض اللون ومن ثم أضع المزيج على الكرتونة، لتحصل العجائب، فقد تفشى الزيت وأصبح الأمر “عويصا” لا يمكن وصفه، لكن إصراري دفعني أن أحمل ما عملته في اليوم التالي إلى المدرسة وأقابل أستاذ الفنون عارضا لوحتي “الزيتية”، التي أثارت سخرية الطلبة، لكن الأستاذ بحكمة المربي تدارك الأمر وقال إن زميلكم قد حاول أن يرسم وسأعلمكم كيف نرسم لوحة زيتية على القماش المشدود والمؤسس بزيت الكتان وليس الزيت الذي غرفه زميلكم من “قطرميز اللبنة”.
أكسم طلاع