المحرقة الأرمنية في مهرجان “كان”
تنوعت الأفلام التي جسدت مشاهد مذابح الأرمن على يد الأتراك العثمانيين،وأظهرت قسوة الأساليب الإجرامية المتبعة بقتلهم والمتمثلة بالذبح بقطع الرؤوس وإحراق الأحياء والتنكيل بالجثث والقتل الجماعي واغتصاب النساء،تقابلها قصص وحكايات مغرقة بالإنسانية تسرد عذابات الضياع والتشتت،لكن الجديد مشاركة المحرقة الأرمنية في مهرجان “كان”السينمائي الأخير من خلال فيلم “لاتقولوا لي إن الصبي كان مجنوناً” بطولة الممثلة رزان جمّال بتوقيع المخرج الفرنسي الأرمني روبير غيديغيان،وقد تزامنت مشاركة هذا الفيلم مع إعادة عرض فيلم “مزرعة القبرات” في عواصم أوروبا لمناسبة إحياء الذكرى المئوية للمحرقة الأرمنية التي راح ضحيتها زهاء مليون ونصف المليون على يد الأتراك،وقد تحوّلت ذكرى الجريمة النكراء إلى قضية دولية،وغدت مثار جدل بين الدول للاعتراف بجريمة الإبادة الجماعية التي تعرض لها الشعب الأرمني،مما أثار غضب أردوغان واعتراضه على فتن تثار ضده -بزعمه -مع أن الحقيقة التاريخية واضحة، جسدها بصور بصرية فيلم “مزرعة القبرات” الذي اختزل أحداث المجزرة. جاء الفيلم بتوقيع المخرجين الأخوين تافياني وبطولة الممثلة الإسبانية باث طامبوس ترجو بالاشتراك مع الممثل الفلسطيني محمد بكري،وهو من إنتاج أوروبي مشترك، وأحداثه تستند إلى رواية الكاتبة الإيطالية من أصل أرمني “أنطونيا أرسلان”،التي تتحدث عن مسيرة هرب عائلة أفاكيان التي يقتل الأتراك شبابها ويتم ترحيل النساء والأطفال إلى حلب، ومن ثم إلى دير الزور لتصفية من بقي منهم، لكن المشهد المؤثر في الفيلم هو تسليم البطلة نفسها إلى الأتراك حتى يتمكن الأطفال من الهرب مع القافلة ليحكم عليها بالإعدام، وليتزامن هذا الفيلم أيضاً مع فيلم “الذاكرة” الذي عُرض مؤخراً في أرمينيا،وترجم إلى اللغة الفرنسية لعرضه في عواصم أوروبا، يقوم المحور الأساسي فيه حول مسير قوافل المهجّرين في الصحراء،ليبحر في التفاصيل اللاإنسانية واللا أخلاقية حينما يطلب الشاب الطبيب الأرمني بابازيان المهجّر مع القافلة من الجندي التركي المسؤول عنهم أن يشرب أفراد القافلة الماء من الواحة التي ظهرت بطريقهم بالمصادفة،لأنهم لايملكون المال لشراء الماء من الأتراك،وبعدما يسمح لهم الجندي التركي يقتربون من الماء فتتصاعد في ذاته الرغبة بالقتل فيرميهم بالرصاص لتختلط مياه البحيرة بدمائهم،وتتقاطع مشاهده أيضاً إلى حدّ كبير مع ما يحدث على أرض سورية من قتل وتخريب ودمار وعمليات تنفذها داعش بدعم من تركيا التي دعمت الإرهاب.
أما فيلم “القطع” وهو من إنتاج أوروبي مشترك للمخرج الألماني من أصل تركي فاتح أكين الذي صرح بأن الكثير من الأتراك اليوم،بدؤوا أخيراً باستيعاب ما جرى ضد الأرمن،ركز على أجزاء معينة من الرواية التراجيدية الأرمنية للجريمة، ويتشابه في أحداثه مع فيلم “مزرعة القبرات”،لينحو بعد ذلك بمسار الفيلم نحو البعد العاطفي من خلال رحلة البحث عن الآخر ومضي البطل نزار بجمع المعلومات والبحث عن أفراد عائلته المهجّرين،وعبْر مراحل البحث التي بدأت من بادية الشام يصوّر المخرج مشاهد البؤس لمخيمات النازحين الأرمن.
أمريكا أيضاَ شاركت بإنتاج عدة أفلام عن معاناة الأرمن آخرها فيلم 1915″للمخرج لاكارين هوفها نيسيان،وضع الموسيقا التصويرية له مغني الروك الأمريكي الأرمني سيرج تانكيان،ويكشف عنوانه الواضح عن مضمونه إلا أنه يدعو إلى مواجهة الماضي والعودة إلى الذاكرة مؤكداً أن الماضي لايُنسى.
كثيرة هي الأفلام التي وثّقت المحرقة الأرمنية، لكن الفيلم الجديد الذي عُرض في مهرجان”كان” يعدّ نقطة تحول في مسار هذه الأفلام،إذ تطرق فيه المخرج إلى واقع الأرمن المعاصر من خلال الأوضاع الحياتية للجاليات الأرمنية في الشرق الأوسط وفي لبنان أثناء أحداث الحرب الأهلية من 1975-إلى 1990 – ويقوم الفيلم على عواقب تغييب الإبادة الأرمنية عن الأجيال التي تلتها،وتدور الفكرة الأساسية فيه حول الانتقام باعتماد المخرج على السيرة الذاتية للابومبا أو القنبلة للصحفي خوسي أونتوني غورياران الناشط للاعتراف بإبادة الأرمن في إسبانيا،بعدما أُصيب في عملية للبحث السري الأرمني لتحرير أرمينيا في مدريد 1982،ثم تبنى أفكار المسؤول عنها،والسؤال الذي يطرح نفسه هل سيكون فيلم “لا تقولوا لي إن الصبي كان مجنوناً” بداية لمسار سينمائي جديد يبتعد عن تفاصيل مجازر المحرقة، ويقترب أكثر من الواقع الحياتي للأرمن اليوم؟
ملده شويكاني