ثقافة

“صائد الثعالب”: الآخر.. انعكاس الذّات المحطّمة

جريمة مروعة تهز الأوساط الأمريكية في العام 1996 حينما أطلق الثري الأمريكي وراعي الرياضة الشهير”جون دي بونت” النار على” ديف شولتز” المصارع صاحب الميداليات الذهبية والمدرب الشهير دونما سبب مباشر، فأرداه قتيلاً على مرأى من مرافقه الخاص وزوجة ديف، ليدخل السجن على إثرها حتى يفارق الحياة في العام 2010.
هذه القصة الحقيقية كانت محور فيلم للمخرج”بينيت ميللر” صاحب فيلمي  “كابوتي” و”كرة المال” والفيلم يحمل اسم “صائد الثعالب” العنوان الذي لا يشي مطلقاً بالمضمون، إنما هو الاسم الذي أطلقه الثري على مزرعته وبالتالي على الفريق الأولمبي الأمريكي الذي سيرعاه لاحقاً.

سطوة المال
في مشهد أوّلي يجلس مارك منتظراً، بينما المشرفة تسجل المعلومات عن الضيف القادم، تنظر إليه متسائلة:
–  اسمك ديف أم ديفيد؟
–  كلا اسمي مارك، ديف هو أخي. يصمت قليلاً ويكمل، كلانا فاز بميداليات ذهبية،  ومارك هو بطل المصارعة الحرّة، الحاصل على ميدالية ذهبية في أولمبياد لوس أنجلس عام 1984 والذي عجز بعدها عن تحقيق أي إنجاز آخر، يعيش في منزل بسيط، ويجول على المدارس يخبر التلاميذ عن رياضة المصارعة مقابل بعض المال يعتاش منه، لا حياة اجتماعية لديه ولا أصدقاء سوى “ديف”، وهو أخوه الكبير ومدربه في الوقت ذاته، يعيش حياة مستقرة نوعاً ما مع زوجته وأطفاله، وهو النقيض لمارك الممتلئ بالغضب وعدم الرضا على الدوام، والذي يعلق على أخيه فشله وشعوره بالخيبة.
من عالم آخر مختلف يظهر “جون دي بونت” الثري وريث عائلة مكنتها حاجة أمريكا للسلاح من جمع ثروتها، والتي حولت شركتها الصغيرة فيما بعد إلى أكبر شركة كيماوية في العالم، جون هو النموذج الأميركي لسطوة المال على كل شيء باعتباره الطريق إلى السعادة” كما التعاسة” في حال بطلنا، الشخصية المهزوزة الواقعة تحت سيطرة شخصية الأم التي تهوى تربية الخيول النادرة” الهواية التي يمقتها جون بطبيعة الحال”، مفضلة إياها على المصارعة التي يمتهنها ابنها الوحيد” حين يأتيها جون مزهواً حاملاً ميداليته الذهبية، تنظر إليها باستخفاف قائلة: “المركز الأول “جون دي بونت”، يبدو أنك قد مولت هذه البطولة” وتضيف بعد قليل:”لا أحب رياضة المصارعة، هي رياضة وضيعة، وأنا لا أحب أن أراك وضيعاً”
جون الشخصية المهترئة من الداخل، يعيش في قصره بعيداً عن العالم، معتمداً على قوته المالية، والتي تساعده على كسب احترام المجتمع، وتظهره بصورة الثري المحسن والداعم للرياضة وهي الصورة التي يبحث عنها ويسوّق لها إعلامياً كصاحب رسالة وفلسفة في الحياة. بينما الحقيقة مختلفة في القصر الكبير الذي سيقيم فيه الفريق الأولمبي، حيث سنرى الكثير من المتناقضات وتعقيدات الحياة الأمريكية وصورة مغايرة لعالم الرياضة مليئة بالفساد الأخلاقي والامتيازات المشبوهة، كوكايين ومخدرات وإدمان للكحول وسواها، وأمام ضغط جون سينتقل مارك للعيش في المزرعة بحجة تدريب الفريق للفوز في الأولمبياد القادم، والذي سيحول”دي بونت” من ثري عادي إلى راعٍ ومثال أمريكي في عالم الرياضة.
تتطور العلاقة بين الرجلين بعد الفوز من أفضل ما يمكن إلى أسوأ حال، في الوقت الذي يتمكن فيه”دي بونت” من إقناع الأخ ديف بالانضمام إلى الفريق بعد أن يشعر بأن الرهان على مارك كان رهاناً خاسراً، ينتقل ديف وعائلته للعيش في المزرعة محاولاً إعادة التوازن إلى حياة مارك الأمر الذي ينجح به فيقوده إلى الفوز من جديد.
لكن ودون أي مقدمات، ينتهي الأمر بشكل تراجيدي غير مبرر وغير مفهوم، سوى أن ديف نجح بما فشل الثري بإنجازه، عندما يتوجه جون إلى مقر إقامة المصارع والمدرب الشهير فيطلق عليه ثلاث رصاصات ترديه قتيلاً أمام أعين الزوجة والمرافق الشخصي، ثم يعود ليفك أسر خيول والدته التي توفيت، ويطلقها إلى العراء.

الحلم الأمريكي المشوّه
الفيلم بشكل أو بآخر ينقل لنا صورة الحلم الأمريكي الذي غالباً ما يحاصر صاحبه كما في حالة جون، الذي أسقط كل عقده ومخاوفه على الآخر فأرداه برصاصاته الثلاث، الحلم ذاته هو الذي جعل مارك يخضع لضغط جون بالابتعاد عن أخيه واللحاق به بحثاً عن تحقيق ذاته، إذ قال له “أنت أكثر من شقيق ديف شولتز” الصغير، هو سيبقى دوماً معلمك وأخاك الأكبر، لكنه لن يدعك تصبح ما يمكنك أن تصبح عليه، بدون أخيك يمكنك أن تفعل أي شيء تقرره أنت، أنت ستحقق حلمك المنشود”.
الحلم الذي سيسحق مارك ويجره إلى عالم الكوكايين، المخدرات والإدمان على الكحول، والفشل بما كان يتقنه على الدوام.

شخصيات متناقضة
الشخصية الوحيدة في الفيلم التي كانت أقرب إلى المشاهد هي شخصية ديف والتي أدى دورها الممثل” مارك رافالو” شخصية واضحة طبيعية طيبة، بينما كانت شخصيتا جون ومارك شخصيتين مضطربتين بشكل متناقض بين الغضب والثورة الدائمة لدى مارك والذي أدى دوره بإتقان الممثل تشاننغ تاتوم، وبين الشخصية المهتزة المريضة لدى جون والذي جسدها الممثل الشهير ستيف كاريل، شخصية جامدة، مشوهة من الداخل، بملامح باردة قاسية، أنف بارز، وهدوء مثير للريبة بالإضافة إلى شخصية الأم التي قامت بتأديتها الممثلة الشهيرة فانيسيا ريدغريف.
“صائد الثعالب” فيلم يستحق المشاهدة والتأمل في أحداثه، ويعتبر أفضل أفلام ميللر وأهمها، وهو أيضاً أكثر أفلامه تقديراً على مستوى المهرجانات والجوائز، فقد نال جائزة الإخراج في مهرجان كان السينمائي، ورُشّح لخمس جوائز أوسكار منها جائزة الإخراج والسيناريو وأوسكار أفضل ممثل، فيلم يركز على الحالة النفسية لشخوصه، عن دوافعها وعما يدور في دواخلها من أفكار وتطلعات وأحاسيس، تنعكس على المتفرج فتبقيه متوجساً ومتأملاً في آن معاً لما يجري، بينما عقله يضج بأسئلة لن تنتهي بانتهاء العرض.

بشرى الحكيم