ثقافة

صداقةُ حرف

نعم هناكَ صداقةُ حرف..أؤمن بذلك تماماً.. أقرأ الكثير مما ينثرهُ الأصدقاءُ على صفحات “الفيسبوك” أثناءَ مروري اليومي، لكنّني أتوقفُ في محطاتٍ معيّنة، لأرميَ السلامَ على نصّ ما، أو أرفعَ قبّعةَ ابتسامتي لنصّ آخر، أو أنزعَ أنيابَ امتعاضي من جسدِ خاطرةٍ طريّة! وبين كل هؤلاء.. هناكَ نصوصٌ لا شكّ امتلكتْ صفاتٍ إنسانية، فهي تضحك وتبكي وتصرخُ وتأكلُ من ذاتها ومن ذاتكَ وتنامُ على سواعدِ آلامكَ وتتدلّلُ ربّما على شقاوةِ الرّوح. تتعرّفُ حينها على صاحبِ النّص دونَ أن تراه ربّما، تتخيّلُ ملامحهُ من أشكالِ الكلماتِ، تحادثُهُ بلغةِ حركاتِ وجهك، ترمقهُ بتنهيدةٍ  وتصافحُ قلبَهُ بلمسةِ نبضكَ على مجرى السّلاسةِ بين السطور، تضمّهُ إلى قائمةِ المقرّبينَ من لهفةِ قراءتك، تتابعُ ما ينشرُ كأنكَ تأكلُ وجبتكَ المعتادة أو تخرج في نزهةٍ مسائية، تناديهِ في سرّك: ما أروعك..ما أجملك.. ما أنقى بوحَ كلماتك.. ما ألذّ نكهةَ روحك! تطلقُ على نصوصهِ رصاصَ دهشتكَ، وربّما تُراقصُ أوجاعَهُ على وقعِ نزفك.. تفرحُ لفرحه وتحزنُ لحزنه، يمتلكُ فيكَ ما لم تمتلكهُ أنت، ويأخذُ منكَ ما لم تهبهُ قطّ لكلمة!
ربّما يعيشُ النّصُ في ذاكرتِكَ لوقتٍ طويل إن لامسَ مكامنَ الوجعِ تحت جلدِ روحكَ، تستعيدُ فكرتهُ في شرودك، تكرّر بعض مفرداتهِ على مسامعِ وحدتك، تتخيّل إحساس الكاتبِ لحظةَ الكتابة، هل بكى؟ هل ابتسم هنا لهذا المعنى المخفيّ؟ هل كان يشعلُ سيجارتهُ من لهيبِ نبضه؟ هل يدركُ تماماً ما نثرَ من معانٍ أم كان يكتبُ قاصداً معنىً واحداً بذاته!
أثناء مروري على صفحاتِ مواقع التواصل، أبحثُ بتلقائيةٍ عن تلكَ الكلمةِ التي تسحبُ من جوفِ عبوسي ابتسامة، عن تلك الصورةِ التي تكسرُ إطارَ جمودي، عن ذاك المعنى الذي يحلّقُ بي إلى ما وراءِ الزّمن حاملاً كل الأمكنةِ التي أعرف، ناثراً مشاهدَ الألمِ في أرضِ الخيال.
لا شكّ أن مواقع التواصلِ باتت تعجّ بالمستشعرينَ والمستكتبين، لكن هناكَ دائماً ما هو ملفتٌ وحقيقي ومبنيّ على موهبةٍ ظاهرة، شئنا أم أبينا علينا أن نتقبّل هذا الواقع .. فهو في جانبهِ السّلبي جعلَ الشّعرَ والأدبَ كأنّه عملُ من لا عملَ له، لكنّهُ أيضاً في الجانب الإيجابي خلقَ لصاحبِ الموهبةِ مساحةً افتراضيةً لا يوفّرها الواقعُ بالضرورة لنشرِ إبداعهِ وإيصال كلمتهِ  لشريحةٍ واسعةٍ من النّاس على اختلافِ انتماءاتهم وأعمارهم وثقافاتهم.
جمالُ النّص الأدبي في فكرتهِ أولاً، ثم في أسلوبِ كتابتهِ ثانيا، ثم في القدرةِ على إيصالهِ للقارئ، مع الأخذ بعين الاعتبار أن من يقرأ ليس بالضرورةِ أن يمتلك ثقافةَ الكاتب، أو رؤيته أو مقصدهُ بالضبط. وهنا يبرزُ جمالٌ آخرٌ، ويتجلّى في قدرةِ النّصِ على إبرازِ أكثرِ من معنى، فيصلُ إلى القراءِ والمتابعينَ كأنّهُ قوسُ قزحٍ متعدد الألوانِ والمقاصدِ.
وبناءً على ما تقدّم تطفو على السّطحِ “صداقةُ الحرف”.. تلك الصداقةُ التّي تنشأ دونَ قصدٍ ربّما، دون اختيارٍ للصّديقِ حسبَ صفاتهِ الإنسانيّة، بل تبعاً لما يكتبهُ من كلماتٍ على صفحتهِ الافتراضية، وأنا أرى أنّ هذا النوع من الصّداقاتِ هو الأنقى والأبعد عن أي مصلحةٍ أو مجاملة، فنحنُ لا نهتمّ بشكل الشخصِ ولا بتصرفاتهِ التي نجهلها، ولا بلكنتهِ ولا مزاجه، بل نعلم عنهُ ما يخبرنا بهِ القلم، ما توصلهُ لنا الكلمات، وتكشفهُ  لنا السطور.
النصّوصُ كائنات، بعضها وحشيّ والآخرُ أليف، ليس بالضرورةِ أن نخشى الوحشيّ منها أو نرتاح للأليف، فوحشيّةُ النصّ ربما تُخرج من دواخلنا غضباً لا بدّ أنّه وجدَ في الكلماتِ تنفيساً لقهره، وألفةُ النّص الآخر ربّما تُعيد نصفيّ الروح إلى الالتصاقِ بعد أن فرّقهما صمتٌ مطبق.
في زمنٍ باتَ فيهِ الكتابُ أسير أكوامِ الغبارِ على رفّ مكتبة، وفي زمنٍ باتَ فيهِ موضوعُ النّشرِ خاضعاً لصعوباتٍ  وتكاليف، وباتَ فيه الحبّ تهمةً وخروجاً عن نصّ الواقع، لا بدّ لنا من استغلالِ مواقع التواصل الاجتماعي استغلالاً إيجابياً، لإعطاءِ الفرصةِ للمواهب الشابة للظّهورِ والتعبيرِ عن آلامِ النّاس وتطلعاتهم، رغم كثرةِ السلبيات التي تنفّر البعض من عالم الانترنت، وما يخفيهِ من إدمانٍ وإضاعةٍ للوقت والفائدة.
“صداقةُ الحرف” في زمن التواصل الالكتروني، لا تحتاجُ زياراتٍ ولا مواعيدَ ولا واجبات، لا تتطلّبُ مجاملةً ولا وجوداً حسّياً.. هي إحساسٌ يسري في خلايا الأفكار والخواطر، واقترابٌ لا يُلزمكَ ولا يفرضُ على الآخر ما ليس يريده، صداقةُ الحرفِ جواز سفرِ الرّوحِ إلى عناقِ الرّوح، دونَ حاجةٍ لتأشيرةِ لقاء!.
وسام محمد ونوس