ثقافة

صباح الخير..أيها الحزن

فرانسواز ساغان أسطورة أدبية فرنسية، وُلِدت في فترة الخمسينيات التي كان فيها الأدب والفكر الفرنسيان يحتلان موقعاً طليعياً متقدماً على الصعيد العالمي بوجود أدباء ومفكرين كبار من أمثال: ألبير كامو، لويس آراغون، جان بول سارتر، سيمون دوبوفوار.
بدأت ساغان (1935- 2004) الكتابة وعمرها 19 سنة، ولمعت إلى جوار الوجوديين. كتبت نحو خمسين كتاباً، من أبرزها: الروايات، إلا أن روايتها الأولى (صباح الخير أيها الحزن 1954) التي رسمت مسارها الفني والأدبي. ومن أبرز رواياتها الأخرى: (ابتسامة ما- 1956، في يوم ..في سنة 1957، حارس القلب 1968)، وغيرها من الروايات تتحدث فيها بخفة عن الموضوعات الجادة، مستلهمة إلهامها من تناقض وجودها، بين نشاطها الإبداعي وحياة المجتمع الراقي وكذلك حياة التوحد والعزلة الداخلية. وساغان أشهر أديبة فرنسية في النصف الثاني من القرن العشرين، لم تكن تدعى باسم ساغان، وإنما باسم كواريز، كل الناس في المدرسة يعرفون فتاة ذكية، نزقة، جريئة، تدعى فرانسواز كواريز. في ذلك الوقت لم يكن أحد يُعرف باسم ساغان لسبب بسيط هو أنها لم تكن قد اخترعت هذا الاسم الجديد المستعار. كتبت في القصة القصيرة وفي المسرح وفي المذكرات واليوميات والحوارات وفي السينما والعديد من الأغاني. اشتهرت صاحبة رواية (صباح الخير أيها الحزن) بتعرضها لمواضيع تتعلق بالجيل الشاب والحرية والعزلة والقطيعة والعلاقات العاطفية ومواضيع كثيرة أخرى. وكانت ساغان في عداد الموقعيّن على بيان الـ 121 مثقفاً فرنسياً عام 1961 لدعم حق الجزائريين في تقرير مصيرهم. وكثيرون اعتبروا أطروحات ساغان بمثابة بدايات المسار الذي أدى إلى ما عُرف في فرنسا بـ “ثورة الطلبة” في أيار عام 1968 ، وأهمية هذه الكاتبة تنبع من روح الحرية التي تميزت فيها فرنسا في سنوات الخمسينيات والستينيات فهي صورة نموذجية لكاتبة متمردة تميزت ببساطة أسلوبها وقدرتها البارعة على التعبير عن أدق المشاعر الإنسانية وبكثير من الشاعرية، إلى درجة أن الكثير من النقاد رأوا في كتاباتها شيئاً من روح أشعار شارل بودلير أو بول إيلوار.     (صباح الخير…أيها الحزن) عمل أدبي وقع كالقنبلة يوم ذاك وسط الساحة الثقافية الفرنسية ليعلن مولد نوع من الأدب الشعبي – الوجودي المتمرد على القيم الاجتماعية والمواثيق الأدبية الراسخة. تدور الرواية حول فتاة تدعى سيسيل، تمضي الصيف في فيلا على الساحل اللازوردي في جنوب فرنسا مع أبيها وصديقته، والأب معروف بخوضه علاقات متتالية مع النساء، أما علاقته الأخيرة فكانت مع الحسناء إليزا التي ترتبط بصداقة طيبة مع ابنته، يمضي الأيام وسط لهو في الفيلا، ويحدث أن تصل ذات يوم السيدة- آن – التي تبدو مختلفة في ثقافتها وأناقتها وحسن مسلكها عن النساء اللواتي اعتاد الأب مصاحبتهن لاسيما عن إليزا إذ يُعلن – الأب وآن -ذات يوم أنهما سيتزوجان. صحيح أن سيسيل كانت قد أبدت إعجاباً بـ آن، غير أن الأمور تتبدل، إذ يُخفف الأب من اهتمامه بابنته لمصلحة خطيبته، الأمر الذي يثير غضب ابنته وغيرتها. من ناحية أخرى تأثير إليزا التي تبدأ بتحريض سيسيل ضد الدخيلة الجديدة.. وهكذا تبدأ بتدبير المؤامرات لينتهي الأمر بـ – آن – إلى السقوط من أعلى هاوية فيما يشبه الانتحار، بينما يعود الأب وابنته إلى الفراغ الصيفي في الفيلا من جديد كما كانا قبل وصول – آن – لكن سيسيل تكتشف مشاعر جديدة وهي: الحزن. تقول في الرواية: “عندما أكون وحيدة في سريري، في الفجر، مع الصوت الوحيد لصخب السيارات في باريس، تخونني ذكرياتي.. آن… آن! أقوم بتكرار هذا الاسم بصوت منخفض مع نفسي في ظلام الليل. شيء ما يصعد في أعماقي. وأنا أستقبل هذا الاسم مغمضة العينين: “صباح الخير أيها الحزن”.
منح النقاد الفرنسيون جائزتهم لرواية (صباح الخير أيها الحزن) لتصبح فرانسواز ساغان كاتبة من أشهر كاتبات العالم، ليس في فضاء الأدب الفرنسي وحده، بل في فضاء الأدب النسائي في العالم أجمع، وليجعل منها ظاهرة اجتماعية – أدبية تكاد تُلخّص وحدها ما عجزت الوجودية كلها عن إيصاله إلى القطاعات العريضة من الناس، ذلك أن أسطورة ساغان ارتبطت في ذلك الحين بالنضال من أجل حرية المرأة وبالأدب النسائي المتحدث عن تجارب حياتية، والمنتمي إلى نزعة وجودية قد تكون سطحية وبعيدة عن الفلسفة الوجودية نفسها، لكنها على أي حال تنتمي إلى الحرية والالتزام بالتحرر وجميعها ترتبط بالصيغة الشعبية المتداولة للمذهب الوجودي.
وإذا كانت شخصيات روايات ساغان تعطي لقرائها الانطباع بأنها حقيقية، فإن السبب يعود إلى أنها شخصيات أصيلة أمسكت بها لكنها عرفت كيف تصقلها بمهارتها الروائية. ساغان هي أكثر من  مجرد  كاتبة، بل هي ظاهرة نشر خارقة، كاتبة وامرأة وتاريخ مرحلة سنوات الخمسينيات وما يعقبها، من ثورة وتمرد وأناقة ورهافة حس والتزام وحرية، فقد قطعت شوطاً مهماً في الأدب دون أن تأخذ ذلك على محمل الجد، لها نظرة متواضعة عن نفسها بشكل مثير للإعجاب، فقد عانقت عصرها دون أن تتنازل أو تُقدّم مساومات له. لقد تحولت ساغان إلى رمز لشباب يائس، لا مستقبل له، ذهبت بعيداً في العبث، لكنها كانت تكتب بأسلوب رائع وبرؤية تؤثر في أحاسيس الناس. لقد أطلقت صرخة مدوية في المجتمع الفرنسي، وهي التي عبرّت كفتاة مراهقة عن أحاسيسها دون أي ظلال في وجه العائلة البرجوازية التي تنتمي إليها. أمضت ساغان أيامها الأخيرة في حزن عميق، حزن لا يعادله إلا روايتها “صباح الخير.. أيها الحزن”.
إبراهيم أحمد