جنى فواز الحسن بين علو المعنى والمبنى وغواية المرايا في “طابق 99 “
من علو شاهق وبصيرة نافذة تطل علينا جنى فواز الحسن بروايتها “طابق 99” من منشورات ضفاف – دار الاختلاف لعام 2014 التي وصلت للقائمة القصيرة لجائزة البوكر، لتفكك عوالم شخصياتها الموزعة بين الأمكنة “جبل لبنان..مخيم صبرا وشاتيلا.. نيويورك – كفرياسيف” وبين الزمن حيث تعود لاستحضار الحرب الأهلية اللبنانية – مجزرة صبرا وشاتيلا 1982 حيث يتبدى مجد وهو الشخصية المحورية في الرواية كجزء مصاب من ضحايا المجزرة التي ألقت ظلالاً ثقيلة الوطأة عليه صبغت آفاق حياته بلونها القاتم، وهي التاركة بصمتها في وجهه، وعاهة مستديمة في رجله حيث تدخل في دوامة تناقضاته معبرة عن أزمة الإنسان الوجودي ككائن اعزل لتعرج على أزمة الفلسطيني المبعد عن مكانه واللاجئ لمكان آخر والمقحم بمنازعات بعيدة عن همه المركزي، خاصة لمن ولد بعد النكبة يعرف الوطن عبر ذاكرة أهله النازفة وجراحهم المفتوحة، وحلماً بعيد المنال والحرب الطاحنة التي لاترحم أحداً، يبعده أباه المدرّس في الاونروا والفدائي السابق إلى نيويورك تاركين جثمان أمه وطفلها الذي لم ير النور كركيزة انتماء لعودة مؤجلة إلى مكان مؤجل، ليستبدل الأب السلاح بالورد مهنة ووسيلة عيش، حيث يبرع مجد في عمله في الطابق 99 في إحدى ناطحات سحاب مدينة نيويورك بعلو يجره دائما نحو الأسفل الرمزي الذي يحمل إصابته هوية انتماء في بحر العالم الجديد الذي لا يقبل إلا القوي في خضمه كنوع من التحدي واثبات الذات على الصعيدين الشخصي والعام، حيث شخصيته تحكمها حوارات مونولوجية عبر سرد متعدد الأصوات، فمرة هو الإنسان المقاوم لإعاقته بالنجاح بعمل في مكان من بلاد العم السام وسط ضواري المافيات الاقتصادية، ومرة هو الفلسطيني الحامل لقضيته المعلقة في شتات العالم، ومرة هو العاشق المعلم مستمتعا بلعبة المرايا العاكسة للجوهر والشكل هازئاً من لعبة الموت بالتأكيد على الحياة، من خلال أبجدية العشق بينه وبين هيلدا سليلة أمراء الحرب في لبنان وهي الطفلة الغرة، تلقائية التصرفات التي لم تعرف سوى الرقص الذي تدرس فنونه كانعتاق أنثوي من ربقة العائلة والعادات والأعراف وانعتاق إنساني للروح من فوران الرغائب والأحاسيس، لتجد نفسها في الموقع المضاد لحبيبها، وهم الأخوة الأعداء- اللبناني المتحالف مع العدو -والفلسطيني ضد اللبناني واختلاط أوراق القضايا الكبيرة ضمن معادلة القوي والضعيف والتباس تعريف الصديق والعدو، لترى الحياة من المقلب الآخر بغير عيون ذويها، مما يضطرها لرحلة مواجهة مع محيط لا يرى فيها إلا الابنة المدللة وريثة حصاد السطوة والمال والدم، مشهدية مؤلمة لها يجعلها تعلن فصامها مع عالم لا لون له سوى السواد.
لاتنس الروائية الحسن أن تعرج على تصوير بعض الشخصيات الغربية كصدى لتفاعل الآخر الأوربي مع النماذج الشرقية الوافدة إلى عاصمة المال والأنوار المبهرة بثنائية الـ “هنا” والـ “هناك” فمحسن الفلسطيني المتنكر لجذوره وتاريخه يخوض انتصاراته الجنسية ولكنه يخسر حبيبته (ايفا) التي يعشقها بذكورية الامتلاك الشرقي، كناية رمزية لمن وشائج جذوره لن تحيا في مكان آخر عندما يقتلعها من أرضها مهما كبرت شوكته، فمآله إلى الانكسار وحبيبته “ايفا” صورة للغرب الذي لا يقف عند العواطف في حمى المكاسب والتسلق للأعلى، ومع ذلك تستوقفها اللقطات الإنسانية العاشقة لأنها تبلسم جروح الروح المتألمة التي ما أوصلها إلى حجريتها الصلدة إلا ركام من الانكسارات والخيبات المتتالية.
(مادلين) الشخصية الأميركية الأخرى تجسد انتظاراً إنسانيا لزوج تحتاجه مع أطفالها، أرسلته الإدارة الأميركية ليحارب في العراق بحرب ليست حربه وليست قضيته، في إشارة لابتعاد الإنسان بمفهومه المجازي عن صراعات الدول الكبرى وكونه ضحية لها في الوقت ذاته تحت مظلة مجتمع مادي يطحن بعجلته من لايسير بركابه.
((لماذا يجب أن تكون لنا أوطان من الأساس، لماذا لايعيش البشر في كل الأمكنة، ولماذا قسموا الأرض إلى بلدان)) تساؤلات الانتماء والوطنية تثيرها الكاتبة على لسان أبطالها بفكرة أممية إنسانية شاملة بإمكانية إلغاء الحدود والحواجز أن ينتمي الإنسان، مطلق إنسان لكل الأمكنة بلا قيود ولا معوقات. تهويمات خيالية ذات حلم عالي الإيقاع تريده الكاتبة ظلالاً لأفكارها باختيار الحب معادلاً نفسياً وقيمياً لواقع تعجز حيثياته على إمكانية الخروج من قاعه المعتم لجيل تواق لنفض غبار ماضٍ غير معني بمقدماته ونتائجه، والتنصل من وزر كوارثه وخيباته عبر بناء معادلته الخاصة وملامح تجربته الحياتية. فهل ينجح؟.
دعد ديب