يوم آخر في الفردوس الدامي
سقطت قذيفة صاروخية البارحة في مكان قريب من بيتي، الأمر الذي يحدث بين الحين والآخر، إلا أن صوتها هذه المرة كان قريبا لدرجة أنني شممت رائحة قلبها الأسود المتفحم من حقده وغله.
كنت وصديق منشغلين بالاستماع لكلام آخر من عالم آخر، عندما قصف صوتها المدوي، قررنا أن نهبط من المنزل للطابق الأول في البناء، خشية أن تلحقها قذائف أخرى من عالم آخر، إلا أننا عدنا سريعا إلى ما كنا فيه، وكأن الصوت المدوي الذي عبرنا منذ قليل، ضاع كغيره من الأصوات في الفضاء بلا أثر.
في طريق عودتي للبيت، مررت بالمكان الذي هوت فيه القذيفة، كان قد فات على سقوطها أقل من نصف ساعة، لولا رائحة البارود لكان من الصعب أن أحزر إن كان قد حدث هنا ما حدث من نزال ضار بين الحياة والموت، حركة الناس طبيعية، شاب وفتاة يأكلون البوظة، سيدة أربعينية تنادي زوجها الذي انشغل بحديث هاتفي، يروح ويجيء وعيناه لا تنظران إلا لحذائه، دراجة نارية تعبر الشارع مسرعة ولها صوت يوقظ الأموات من قرقعته الشديدة، طفلة تزجي انتظارها مع ذويها لواسطة نقل بالحديث إلى لعبتها الشقراء بينما نظراتها الهادئة وكلماتها الرهيفة تكنس الحزن والخوف من المكان.
أعود أدراجي، لقد وقع ما خشيت منه دائما، اعتدنا الموت!
أمام بيتها في الحيّ وقفت أم رأفت، السيدة الحلبية التي سبب لها هذا الصوت الذي تعرفه جيدا، ندبة ندية في القلب، وعلة لا تنضب في الروح، أم رأفت تحفظ من هذا الصوت أنه كان آخر ما سمعه ابنها وزوجها قبل أن تصبح واحدة من غرف بيتها في حلب، قبر ضم جسد الأب والابن معا وقلب سيدة محترق تُبرّد غلوائه بدموع نقية ورسائل فقدٍ لا تصل، تُحمّلها لأطفال الحي بعد أن صار باب بيتها دكان فرح صغيرة، يوزع السكاكر والحلوى على تلك الأيادي الغضة والعيون الأليفة التي ترى الحزن باديا على محيا أم رأفت كما لو أنه خال داكن اللون في خدها.
في البيت كانت الحياة تسير وفق إيقاعها اليومي، الكهرباء مقطوعة والأولاد يتسلون بتسمية النجوم بأسماء شهداء يعرفونهم على حداثة سنهم، عدّ الصغير من أبنائي ابن العامان والنصف على أصابع يده الصغيرة، ست نجوم، وأحسب أنه اخطأ في حساباته البريئة، حيث انه سمى عدة نجوم باسم الشهيد عمه.
جاءت الكهرباء، الأطفال ناموا ومن نوافذ البيوت القريبة خرجت أصوات أجهزة التلفاز، نشرات أخبار وفقرات إعلانية، مسلسلات تلفزيونية وأغان لا معنى لها، وحدها إبرة الراديو كانت لا تزال هائمة على وجهها في الفضاء تتصيد المشقة.