مع بدء عروض مسرحيته “مدينة في ثلاثة فصول” المخرج عروة العربي: المسرحية واقعية المضمون تجريبية الشكل
حتى لا يغرد خارج سرب ما يعيشه الناس ينحاز بشدة لتلك النصوص التي يتقاطع مضمونها مع ما يعانيه الناس، ولأن الحرب هي ما نعيشه اليوم في سورية وقع اختيار المخرج عروة العربي في مسرحيته “مدينة في ثلاثة فصول” التي بدأت عروضها منذ أيام على خشبة مسرح الحمراء على نص سوري قام بكتابته الكاتب الراحل مصطفى الحلاج حكى فيه عن بيئة أوروبية أثناء الحرب العالمية، لذلك يبيّن العربي في حواره مع “البعث” أنه اختار من النص فرضية المكان والزمان التي طرحها الحلاج واشتغل عليها مع الفنان كفاح الخوص فأخذا جزءاً من الحكاية وبنيا عليها لتصبح متقاطعة مع ما يجري في بلدنا.
الواقعية أصعب الأنواع
وعلى الرغم من أن “مدينة في ثلاثة فصول” وكذلك مسرحيته السابقة “الحرب وأشياء أخرى” تحدثتا عن أجواء الحرب، إلا أن العربي مازال في أعماله يبتعد عن الكلام المباشر عن الأزمة، مفضِّلاً تناول مفردات حرب في أي مكان، فيتناول الأزمة في سورية دون الإشارة إلى المكان، موضحاً أنه إن أراد أن يقدم أعمالاً تتحدث بشكل مباشر عما يحدث في سورية فهو مطالَب بأشياء كثيرة، أهمها أن يقدم ما لا يعرفه الناس وقد باتوا يعرفون الكثير وبوضوح، منوهاً بأن معظم العروض التي تناولت الأزمة لم ترتقِ لما يعرفه الناس، وبالتالي كانت عروضاً شاعرية ورومانسية وتركز على الجوانب الفنية، مبيناً أن مسرحيته “مدينة في ثلاثة فصول” تتناول مجموعة من شرائح المجتمع يختبئ أفرداها في قبو البار الذي كانوا يسهرون فيه، معتقدين أن القصف على المدينة لن يطول، ليمضوا أسبوعاً كاملاً ضمن هذا المكان، ولنكتشف من خلال مكاشفاتهم وقصة كل واحد منهم مشاكل المدينة، أما عن فصول المدينة التي يتحدث عنها فهي ثلاثة وقد أسقط فصلاً رابعاً ليتعرف إليه الجمهور حين حضوره للمسرحيّة، مشيراً إلى أنه وللمرة الثانية يتطرق لنص واقعي، والواقعية برأيه أصعب الأنواع لأنها لا تتيح للمخرج أن يستعرض ما في خياله، منوهاً في الوقت ذاته وهو الذي اعتاد التجريب في المسرح إلى أن مسرحيته وإن كانت واقعية من حيث المضمون والعمل على الممثل، إلا أنها تجريبية من حيث الشكل والسينوغرافيا التي اختارها، مؤكداً أنه يجدد في أي عمل يقوم به، رافضاً أن يقدم نفسه كمخرج بشكل واحد انطلاقاً من إيمانه أن المخرج يجب أن يذهب باتجاه النص، فيرى ماذا يتطلب إخراجياً لا أن يجلب النص إلى شكل فني وحيد يحبه، وهذا ما يفعله المخرجون الذي يكررون أنفسهم في كل تجاربهم منذ عشرات السنين.
الإخراج موهبة
ويعترف عروة العربي أن الجديد الذي يقدمه إخراجياً في كل مرة لا مصدر له إلا إمكانياته الذاتية، مع أنه مع كل عرض يعتقد أن جعبته قد خلت من أي جديد، لكن ما إن يعتلي الخشبة حتى تتوارد الأفكار ويجنح الخيال لديه نحو رؤى وتصورات فنية جديدة، مؤكداً أن الإخراج موهبة تشبه موهبة الكتابة والغناء، وبالتالي لا يمكن لأي أحد أن ينجح فيها لمجرد أنه يرغب في ذلك، مشيراً إلى أنه يسعى إلى التجديد دائماً، وحين يقدم عملاً من الأعمال يبتعد عن كل تجاربه السابقة وتجارب الآخرين، محاولاً قدر الإمكان أن يطّلع على ما تم التوصل إليه على صعيد السينوغرافيا دون أن يتأثر بما يشاهده، موضحاً أن الإنترنت أتاح المجال لكل من يعمل في المسرح أن يطّلع على الديكورات العظيمة للأعمال العظيمة، ويبقى السر في كيف يتم التعامل مع هذه الديكورات بحيث لا تكون مقحمة، ومناسبة وموظفة بشكل صحيح. ولأن التجديد الذي يسعى إليه العربي ويصر عليه في أي عمل ينوي إنجازه لا يتكامل إلا بوجود نص وممثلين يرتقون بهذا الطموح، يؤكد أن وجود نص سوري مناسب مازال معضلة، وبالعموم يرى أن النص السوري غائب كمنظومة متكاملة حيث لا يكفي برأيه وجود نص أو نصين خلال السنة للقول إن النص السوري موجود، ويأسف لأن بعض كتّابنا الذين يكتبون للمسرح مازالوا مؤدلجين، يكتبون بذهنية الذين سبقوهم بعيداً عن الواقع، منوهاً بأن نصوصاً عظيمة كتبها كتّاب كبار لمرحلة من المراحل ينبغي أن تُقرأ بطريقة جديدة لأن كل المعطيات التي كُتِبت فيها قد تغيرت، لذلك تعب كثيراً حتى وجد نصاً يتقاطع مع هموم الناس حالياً.
تعاطٍ مختلف مع المسرح
وعن إصراره على استخدام اللغة العربية الفصحى يرفض العربي أن ينزل لمستوى الناس، خاصة وأن مشروعه المسرحي يقوم على أن يرتقي بهم، ويأسف لأن الدراما والأغنية هبطتا عندما نزلتا لمستوى الناس، من هنا يذكّرنا العربي أنه في يوم من الأيام قدم “هاملت” باللغة العربية الفصحى وقد استطاع أن يشد الجمهور لأكثر من ساعة ونصف، مبيناً أن لغتنا جميلة وليست صعبة، والمهم برأيه أن نطوّعها ونبسّطها ونقرّبها للناس، أما بالنسبة للممثلين واختياره لهم في أعماله فيشير إلى أن ذلك أصبح غاية في الصعوبة، خاصة وأن خريجي المعهد العالي للفنون المسرحية ومنذ سنوات يتوجهون للدراما بعد أن أصبح المعهد جسر عبورهم لها، لذلك فإن وجود خريجين لديهم همٌّ مسرحي قليل جداً، وهذا ما يجعله في أي عمل من الأعمال يدور بين عشرين ممثلاً فقط.
ولأنه يرغب في تقديم عمل مسرحي بسوية جيدة لا يتوانى العربي عن التخلي عن أي ممثل لا يبدي سوية أداء جيدة، في الوقت الذي يعاني فيه المخرجون من ترك الممثل لأي عمل مسرحي بمجرد تقديم فرصة له للعمل في الدراما التلفزيونية، الأمر الذي يحدث إرباكاً كبيراً، ويدعو العربي وزارة الثقافة لاعتماد أسلوب العقد المتداول في الدراما التلفزيونية لحضِّ الممثل على الالتزام بالعمل، منوهاً بأن وزارة الثقافة هي الجهة المعنية بتطوير المسرح وآلياته في سورية ودعمه مادياً، مستغرباً أن تُبذَل جهود جبارة على فيلم يُعرض لفترة محدودة بعدد محدود من الجمهور، في حين أن نفس الجهود من الناحية المادية لا تُبذَل على العرض المسرحي الذي يمتلك جمهوراً أكبر من جمهور السينما، لذلك المطلوب برأيه أن تعيد وزارة الثقافة طريقة تعاطيها مع المسرح والممثل المسرحي الذي لولا حبه للمسرح ما كان موجوداً فيه وهو الفقير الخالي من أية إغراءات، موضحاً أنه يعمل في المسرح انطلاقاً من هذا الحب، ولأن لديه مشروعاً مسرحياً يسعى لإنجازه لذلك لم ينقطع عنه منذ تخرجه وقد حقق حضوراً مسرحياً من خلال اجتهاده ومثابرته، والأعمال المسرحية التي أصبحت في رصيده تثبت ذلك وهو سعيد اليوم لأن كل الأسماء الكبيرة في الساحة الثقافية تعترف بأنه حقق مكانة مسرحية مهمة تدل على موهبة واقتدار، ويذكر العربي أنه عندما دخل المعهد العالي للفنون المسرحية نبهه أساتذته في السنة الأولى إلى أنه يخرج مشاهده ولا يمثلها، ولأنه كان يسمع بموضوعية ويتقبل النقد تلمس ذلك بالفعل فوجد في نفسه قدرة على إخراج عمل في سنته الثانية أنجزه مع زميلته راما العيسى خلال فترة الصيف تحت عنوان “مرآة” فتبنته إدارة المعهد لأنها رأت فيه عملاً احترافياً فنال الجائزة الأولى في مشاركات حوض البحر المتوسط.
ويختم العربي حواره بالإشارة إلى مشاريعه القادمة وفي مقدمتها طموحه في تقديم ميوزيكل حقيقي، معترفاً أن ذلك يحتاج إلى إمكانيات مادية ضخمة، ولإيمانه بأن تحقيق ذلك صعب حالياً يستعيض عن هذا الطموح المؤجل برغبته في تقديم مسرح حركي، في حين أن عمله المسرحي القادم سيكون تحت عنوان “النفق” ولأنه ليس ضد العمل في التلفزيون ستكون خطوته القادمة أيضاً باتجاه الإخراج التلفزيوني، ولحين ذلك يستعد للعمل كمخرج منفذ لفيلمه القصير الأول الذي مازال قيد التحضير.
أمينة عباس