ثقافة

في كتابه “حامل اللهب المقدس” علي القيم: نظرتنا للثقافة اختلفت كثيراً في ظروف الأزمة

كان من الصعب على د.علي القيم ألا يذهب في كتابه “حامل اللهب المقدس” إلى مشارب ثقافية وفنية متعددة وهو الذي كرس حياته وما زال للبحث والعمل والكتابة، فتنقل في مجموعة مقالاته التي تضمنها الكتاب بين الشعر والأدب والفن والفلسفة والموسيقا. ولأن حواره خلال أكثر من أربعة عقود لم ينقطع مع نخبة رائدة من المثقفين العرب والأجانب بحكم عمله في الآثار والمتاحف، وفي وزارة الثقافة وحركته المستمرة مع المؤسسات الإعلامية فقد تناول في جزء كبير من هذه المقالات مفهوم الثقافة ومسؤولية المثقف والثقافة الجديدة التي نحتاجها اليوم في ظل ما نتعرض له من أزمات في عصر التحولات الكبرى.

الثقافة عملية متصلة
يرى د.القيم أن الثقافة كالتاريخ عملية متصلة الحلقات مستمرة ومتوارثة، وثمة علاقة عضوية بين الثقافة والتاريخ السياسي، فالإبداع الثقافي في كل مجالاته يتأثر بالوضع السياسي السائد في المجتمع، وعلاقة المثقفين مع السلطة ونظرة السلطة إلى دور الثقافة، والثقافة في بعض معانيها هي حصيلة هذه الأوضاع وتسجيل لها في الوقت ذاته، ولكي نفهم الإبداع الثقافي برأيه فإن الأمر يقتضي الإحاطة بالظروف والأوضاع والملابسات التي لازمت إنتاجه مما يستدعي الرجوع إلى التاريخ السياسي، وهنا تكمن أهمية إتاحة وتوفير الوثائق للباحثين والدارسين ليستطيعوا التعرف على تفاصيل الحياة الفكرية والثقافية والاجتماعية، وحين ينظر القيّم إلى الثقافة العربية يجد أن مكوناتها الرئيسية قد تأثرت في السنوات القليلة الماضية بثقافة العولمة، فأصبحت بضاعة خاضعة للعرض والطلب، فتخلت عن دورها ومضمونها وأهدافها وغاياتها، وتحولت من شيء نقرؤه ونسمعه إلى شيء نستخدمه ونستهلكه، وهنا تكمن المشكلة، مبيناً أنه يفهم الثقافة على أنها نظام فكري يجسد أسلوب الحياة في المجتمع بكل ما ينطوي عليه من إرث مادي ومعنوي حيّ، وهي ذاكرة الشعب والمفصل الحركي للماضي والحاضر بعلاقتهما للمستقبل. وبتقييمه للوضع الحالي للبنية الثقافية العربية يأسف د.القيّم لكونها مفككة الأوصال، يسيطر عليها بشكل عام الفكر أحادي البعد، وقد كان الإنتاج الفكري والثقافي متعالياً عن الجماهير العريضة، ولم يأخذ بعين الاعتبار تنوع انتماءاتها الفكرية والأيديولوجية، وقد ساهم ذلك بشكل أبو بآخر في تشكيل هوّة بين الفكرة والمعاش، مشيرا إلى أن الثقافة في عالم اليوم أصبحت مفهوماً ديناميكياً يراد منه تخصيب المدارك بالإطلاع واستثمار المعرفة بالتخمين والتدبر والسعي، وهي بذلك ترفع من قيمة الإنسان ومستواه الاجتماعي والفكري والاقتصادي، وهي حصيلة معلومات متنوعة ومتراكمة وأساليب في التفكير تتسع وتضيع بحكم ارتباطها بقضايا الإنسان، والمثقف غير العالم المتخصص هو الشخص الذي يكون واعياً عن طريق حسه الاجتماعي بإنسانيته سواء تعلق الأمر بعصره أو بخارجه، وهذا هو الجانب الإنساني في الثقافة، ولأن الثقافة تختلف من مجتمع إلى آخر وليست محايدة فهي سلاح ذو حدين، إذ يمكن أن تستخدم أداة للتغيير وأداة لتثبيت الوضع القائم، ويمكن لها أن تكون وسيلة لاجترار الماضي أو قاطرة للمستقبل، ويمكن لها أن تكون سياج الانغلاق على الذات أو نافذة الانفتاح على الثقافات الأخرى.

الحضارة أكثر تقدماً من الثقافة
يشير د.القيم في كتابه أيضاً إلى أن اللوحة الاجتماعية والاقتصادية التي أحدثها (الربيع العربي) الناتج عن سياسة الفوضى الخلاقة غاية في التعقيد، وقد جعلت المثقف بشكل عام في حيرة من أمره فيما حدث ويحدث، وأصبح أمام استحقاق تغيير جذري في أمور كثيرة تتمحور حول الهوية والوجود والتاريخ والقمع والإرهاب والفقر والتجهيل والفتن والحروب الأهلية والانقسام والدمار، ولأن المستقبل العربي في دورة التحدي لن يغفر لأي مثقف أو مفكر عدم قيامه بدوره الشمولي الإستشرافي التنويري الذي نحن أحوج ما نكون إليه، معترفاً أن نظرتنا للثقافة اختلفت كثيراً في ظروف الأزمة التي يعيشها العرب منذ سنوات مما يتطلب من المثقفين على اختلاف مشاربهم وأفكارهم مراجعة الكثير من مواقفهم وآرائهم، وقد تعارضت المواقف والمصالح والأحداث، وتمزق المثقف بين اتجاهات عدة يذكر منها: دور المثقف في مجتمعه وعلاقته بالسلطة والعوامل الاقتصادية والاجتماعية، والتحدث عن أمور هي خيال محض، في حين أن ما حدث ويحدث يدعونا جميعاً برأيه إلى الاستنهاض والقيام بالفعل المحرك، والاعتراف بالاختلاف وإمكانية الحوار مع المختلفين وتحقيق التواصل.
ويوضح د.القيم أن من يسترجع مفهوم الثقافة بالعموم يدرك جيداً كم تغيّر حتى عند كبار الأدباء ومنهم عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين الذي لم يميز في كتابه الشهير “مستقبل الثقافة في مصر” بين الثقافة والحضارة وقد خلط بينهما، مبيناً أن الأمة تصبح ذات حضارة حينما تحقق الثقافة الحيوية والاعتداد والثقة بالنفس في الأمة، وأن بعض العلماء يعتبرون الثقافة جسراً للحضارة، وهذا يعني أن الحضارة أعلى درجة من الثقافة وأكثرها تقدماً وأعظم رقياً لأنها نسق من التفكير والإنتاج والسلوك ناتج عن أرضية ثقافية بمعتقداتها وخلفياتها التاريخية، فتكشف كل حضارة عن وجودها من خلال ما ينبع من ذاتها من فنون وتراث وعطاء علمي وفكري وثقافي على مر السنين.

حبها أعمق من الحياة
وحين يصف د.القيّم حكايته مع الكتابة في كتابه “حامل اللهب المقدس” يؤكد أنه كرّس معظم أوقات حياته يدرس ويبحث ويعمل ويكتب، وكانت أجمل اللحظات بالنسبة له حين يعيد قراءة ما كتب من جمل وصفحات، وقد أدرك منذ البداية معنى أن يكون كاتباً،مبيّناً أنه كثيراً ما طرح على نفسه السؤال التالي “لماذا نكتب؟” وكان دائماً يقول “أكتب لأنني أرغب في ذلك،ولأنني أحببت هذه المهنة الرائعة” ولأنه يؤمن بخلود الكتاب ولكي يكون سعيداً، ولقراءة ما كتبه ومن أجل أن يعلم ما نوع الحياة التي عشناها،وما نوع الحضارة والفنون التي تمتعت بها سورية عبر تاريخها الطويل، ولأنه يعشق ترابها وآثارها، وهو الذي كتب عنها تحت عنوان “حبها أعمق من الحياة” “عندما أتحدث عن سورية أخجل من نفسي وأجد كلماتي قاصرة عن التعبير عن محبتي لها” ولو أتيح له أن يبوح بألف لغة ولهجة لفعل فجمالها يجهل سره من لم يقترب منه وهي مرتع الجمال والحضارة والفنون،وحبها فوق الزمان والمكان وأعمق من الحياة، وفيها وعلى الرغم من كل ما حدث نستنشق عبير الفردوس، وما زال فيها القلب يستطيع أن يجد فيه جواباً عن كل تساؤل، وهذا هو سر عظمتها وخلودها.
الكتاب صادر عن دار الحافظ 2015 ويقع في 255 صفحة من القطع الكبير.
أمينة عباس