ثقافة

أرصفة الغربة..!!

تخنقني هذه الرتابة المموسقة حدّ الاستلاب، والخضرة الممتدة عبر نافذتي إلى البحيرة الصغيرة نحو اللانهاية الخلابة..
النسيم المترقرق إلى صدري كمعزوفة “زريابية” الخطوات، كـ دفق أصيل الثلج ينبثق من بين ثلم صخرتين متماديتين في الذكريات، لا رائحة له تغريني.
وحدها الغزالات السارحات بهو غبني، يكتبن نشيدي مطراً رخيم اللحن، فيروزي الهدل: “أنا عندي حنين ما بعرف لمين/ ليلية بيخطفني من بين السهرانين/ بيصير يمشيني لبعيد يوديني/ تـ أعرف لمين/ وما بعرف لمين”.
أدلف شوارع المدينة الراكدة، أتدحرج ككرة خاوية من هوائها، أستجدي الأقدام العابرة كي تركلني تحت عجلات حافلة أنيقة، تحمل على ضفتيها إعلاناً عن مهرجان الخريف للقطط والكلاب، أضحك، أكمّم فمي حتى لا يسقط لعابي فيريق طهارة الرصيف.
على الناصية مقهى، موسيقاه ناعسة، تهفهف أجهزة تكييفه هواء سلس المذاق، أستل صحيفة اليوم، سريعاً أتصفح صورها الملونة، فطائر البيتزا تغري القارئين، لا أجرؤ على السؤال عن ثمنها، فقط أعرف ودون مساعدة أين أجد كلمة “coffee” في قائمة المشروبات، أراقب النادل من بعيد، وحين يتجه نحوي أدفن وجهي بين ضفتي الصحيفة التي لا رائحة لحروفها.
أعبر وجوه الجالسين جميعاً، أتفحصها طاولة طاولة، جلّ رواد المقهى يضعون مؤقت الزمن أمامهم، كل شيء له وقت، لكن القهوة التي دفعت ثمنها تواً، طعمها لا يشبهني، أرمي بعض الفكة وأغادر للبحث عن مبتغاي.
مجدداً تأخذني رحابة الشوارع برتابتها، هنا لا يمشي على رصيفها أكثر من شخصين، وكثيراً ما نرى شخصاً وكلباً، فهنا للكلاب حظوظ.
إنها ساحة المكتبات: ياااه.. ما أشقى رائحة الحبر. لكن أين هي رائحة الحبر، لم تدغدغ خياشيمي، لم تنبّه أياً من عصارات دماغي، المكتبات هنا، فاترينات مضيئة زاهية، تزينها صور كبار المؤلفين العالميين والرواد، كل شيء فيها مفهرس على شاشة ذكية، تستطيع البحث دون عناء، أبحث في خيارات اللغة، كل لغات الأرض موجودة إلا لغتي، تخرس أصابعي فوق لوحة المفاتيح، أرطن ببعض الكلمات في حضرة فتاة المكتبة: أين أجد الكتب العربية، تعتذر بلباقة متناهية، فأنسلّ مخذولاً، ثم أعيد الكرّة، وأعيد، وأعيد، ما أجملها لغة الاعتذار عند فتيات المكتبات.
أتوقف مثل عمود إنارة وسط الساحة، بالمناسبة لا أعمدة للإنارة في هذه المدن، هي تنير من تلقاء ذاتها، يدهمني شريط ذكريات غابرة، وأنا أعبر الشارع المرصوف يساراً من “مقهى الهافانا”، باتجاه “مقهى الكمال” تعبّ فيّ رائحة التبوغ والقهوة، تدش في أذني أحجار النرد، اللعنات، النرد يعاند.
كل ضوضاء المدينة لا يفسد متعة قراءة صحيفتي، لا أتردّد في الصراخ: “وحياتك تنين زعتر وواحد شاي”.
لا أدري هل شوارعنا مزدحمة، أم إن السكان يخرجون من بيوتهم دفعة واحدة، يبثون المدينة العتيقة بالحياة، أحنّ إلى ماسح الأحذية الصغير، يرافق ممشاي متوسلاً من “السبع بحرات” إلى دوار المحافظة، وحين أصل “المركز الثقافي الروسي”، أستسلم له لحين انتهائي من قراءة النشاطات الأسبوعية.
مرت خمسة شهور عجاف ولم أتلذذ بقراءة كتاب ورقي، تكاد شاشة الحاسب ترتشف ماء عيوني، أضع يدي على فمي عليَّ أتوقف عن الهجس، لكن الكلام يصير زئقباً، يتسلل من بين الأصابع أسئلة؟.
في دمشق كل يوم يصلي الله وملائكته خمس مرات، في دمشق تتزاحم السفارات الأجنبية على بناء مراكز ثقافية تعرفنا بثقافة بلدانها، تفتتح معاهد ومنتديات، تغدق على منتسبيها كي يتعلموا لغتها، تجعل من سفاراتها مراكز نور، سفاراتنا العربية في فيينا وسائر دول العالم مواخير للبغاء والسمسرة، سفاراتنا في الغرب قصور تمثل من فيها، وكل من فيها خواء، يا للخزي.. يا للعار.. أكبر مقاطعة في النمسا، لا يوجد فيها كتاب عربي. حكى لي أحدهم طرفة ولا أدري مصداقيتها، قال: في سوق المستعمل “البالة” في “كلاغنفورت”، عجوز تبيع الأناجيل المقدسة، وكان عربي يقلب، وجد نسخة قديمة من القرآن الكريم، استهجن ذلك ثم سألها عن هذا الكتاب قالت: لا أعرف عنه الكثير لكن جدي قال: إنه قيّم.
ــ أنا مسلم وهذا كتابي يا سيدتي، كم تودين ثمنه؟.
ــ بما أنك ستقرؤه، فأنا أعفيك من الثمن، خذه هدية.
لا أدري ما المناسبة التي جعلتني أستعيد القصة الآن، وأنا أهمّ مغادراً، صعقت أذناي مما سمعت، رجل يصرخ على الناصية المقابلة، حددته من سمرته: أهرام.. جمهورية.. أهرام.. جمهورية.
خرجت من حنجرتي، من فمي، مني: الله يا بهية مصر.
مددت يدي مصافحاً: “إزيك ياعم.. فينك من زمان”.
ــ “أهلا بيك يا بني أنت مش مصري”؟.
ــ لا.. أنا من سورية.
ــ ” أجدع ناس.. ريحة الشام لسا معششه فيك يا ولدي”.
ــ “عاوز أشتري كل أعداد الصحف العربية اللي عندك، القديمة والجديدة”.
ــ ” جرايد إيه اللي بتقول عنها، في البلد دي مفيش كتاب عربي”.
ــ كنت تصرخ قبل قليل، أهرام وجمهورية؟!.
ــ ” ما تدقش.. محدش فاهم حاجة، كنت بعيط عشان ما أنسى إني عربي، روح يا بني ما تخليش الغربة تنسيك، عيط أدي مفيك، أسامي الجرايد في بلدك”.
النمسا- كلاغنفورت.
طلال مرتضى