فيلم “الزحف” في الأوبرا…الجريمة الباردة ضمن إطار السينما الصامتة
ترسم الأقدار حياة الناس وتأخذهم أحياناً إلى مطارح يرفضونها ليس هذا فقط، فربما تدفعهم إلى ارتكاب جريمة غير مخطط لها تطال أبرياء بعيدين كل البعد عن مسرح الجريمة الفعلي، من هذا المفهوم مضى مسار فيلم الزحف الذي يوحي اسمه بإيحاءات كثيرة، نكتشف في نهاية الفيلم أنه زحف نحو الموت البطيء.
تميّز الفيلم الذي عُرض ضمن برنامج مهرجان أفلام حديثة جداً بمشهدية سينمائية مختلفة مشغولة بحبكة الصورة الدرامية، لتشد المتلقي وتجعله أسير تلك المشاهد الطويلة داخل مكان الجريمة بشيء يشبه مصطلح جبرية الصورة المعروضة.عاد فيها المخرج وكاتب السيناريو “بول الصين” إلى قوة تأثير السينما الصامتة التي تألقت في عشرينيات القرن الماضي دون حوارات ومنولوجات ودون موسيقا أيضاً في بعض المشاهد، ليقحم المتلقي بمجريات المشهد البصري ويشركه بالتوقعات القادمة، معتمداً على الإيقاع البطيء وعدم الانتقالات بين المشاهد واللقطات الطويلة والقريبة جداً والتي تمضي بوتيرة زمنية تتناسب مع حدث تنفيذ الجريمة من خلال الصراع الداخلي للشخصيات والمنعكس على ملامح الوجوه، وتعمد المخرج إيجاد أجواء مخيفة تنبه إلى خطر قادم بلغة الألغاز بقيت مجهولة، لنعرف في نهاية الفيلم أنه وظّفها ببراعة لشد المشاهد إلى الصورة مع الزمن الفعلي للفيلم الذي لايتجاوز عدة ساعات من الليلة، التي كان من المقرر أن تشهد احتفالاً بالخطوبة، إلا أن المفاجأة القدرية جعلتها سلسلة من الجرائم الباردة.
لغة الألغاز
يبدأ الفيلم بوجود قاتل مأجور أطلق عليه “الرجل الكرواتي” وتكررت هذه الجملة في الفيلم دون إظهار تفسيرات لها، كرمزية ربما إلى الحرب الكرواتية، يطلب منه صاحب صالة القمار الراقية قتل صاحب الكازية لعدم دفع ديونه المتراكمة له، في الوقت الذي تكون فيه النادلة مارينا تتحدث مع صديقتها عن قدوم خطيبها مع الخاتم الذي يتوارثونه من العائلة كعرف اجتماعي، وعن التحضيرات التي ستقوم بها، ومن ثم يتغير مجرى الفيلم ليتخذ خاصية السينما الصامتة ويتحدد بإطار زمن ومكان محدد هو المنزل الريفي المنعزل في البلدة الصغيرة داخل الطابق الأول والطابق العلوي ليشغل الدرج بينهما مساحة من الرعب ومن تنفيذ الجريمة.
تنتقل الكاميرا إلى منزل النادلة وهي تستعد لاستقبال خطيبها في الوقت الذي يغير القدر كل شيء، ففي لحظة تصطدم سيارة الرجل الكرواتي مع فرانس الذي يقف بقرب سيارته فيدهسه ويسقط مضرجاً بدمائه، ليرتكب الرجل الكرواتي جريمة ثانية تقوده إلى ثالثة ورابعة، تشده سلسلة المفاتيح فيعيدها إلى جيب المقتول ويأخذ من جيبه خاتم الماس الرابط الذي يفسر العلاقة بين المقتول وصاحبة المنزل قبل أن تفصح المشاهد عن العلاقة بينهما كاستباق للأحداث. تنتقل الكاميرا إلى الزمن الفعلي للفيلم إلى المنزل الريفي، فيفتعل المخرج إشارات وإيحاءات كمشاهد استدلالية لوقوع الخطر كتحريك الستارة في العتمة، وطرق أغصان الشجرة النافذة وفتح الباب الداخلي للمنزل، وتشتد أجواء الرعب حينما تسلط الكاميرا على مقبض الباب وهو يتحرك إلى أن نسمع طرقاً شديداً على الباب لتفتح مارينا الباب بحالة ذعر فلا ترى أحداً، لتلتفت فتجد القاتل خلفها بلحظة رعب شديدة.يعود المخرج في بعض اللقطات لتوظيف نغمات البيانو المرعبة والحادة لتأخذ مكان الحوار وتكون البطل في المشهد الطويل للمطاردة بين البطلة مارينا والرجل الكرواتي.
القتل بالفأس
تتصاعد الأحداث لنجد مارينا مقيدة كرهينة، ويعود الكرواتي إلى مسرح الجريمة موقع قتل فرانس في الطريق الريفي ليخرج سلسلة المفاتيح التي تحتوي على مفتاح الدراجة النارية ليهرب بها، فيجده يزحف بصعوبة نحو الموت فيقضي عليه بالفأس، يعود إلى المنزل ليجد صاحب الحانة يسأل مارينا عن مسدسه المفقود الذي رأيناه في بداية الفيلم في أحد أدراج الخزانة، فيقضي عليه الكرواتي بالفأس، وهنا يتقاطع الفيلم بوضوح مع فيلم التطهير الذي عُرض بالمهرجان الماضي لاسيما بأداة القتل ذاتها وبالأسلوب ذاته لكنه في فيلم الزحف ينفذ جريمة إفرادية.
ينتهي الفيلم بعد مطاردات عنيفة بين مارينا الشاهدة على الجريمة والرجل الكرواتي، وفي لحظة هاربة من الزمن قبل أن يهوي بالفأس على رأسها تتمكن من إطلاق النار عليه،ليعود المخرج إلى سخرية الأقدار والمفارقات بين الحياة والموت وبين الأبيض والأسود حينما يموت القاتل وهو يرسم على وجهه ابتسامة صفراء ويخرج بصعوبة الخاتم الذي يجمع كل المشاعر الإنسانية الصادقة، يتدحرج نحو البطلة التي تعيش حالة ذهول بعد أن أنقذت نفسها وعرفت بموت خطيبها ليبقى الخاتم شاهداً على الفقد والضياع.
تناول المخرج خطوطاً أخرى ضمن الفيلم رغم أحداثه القليلة مثل الشذوذ النفسي تمثل بصاحب الحانة الذي كان يتمتع بالسادية بصفع إحدى العاملات في الصالة على جسدها، إضافة إلى السلوكيات المنحرفة للمجتمعات الغربية.
حاز الفيلم على عدة جوائز عالمية منها أفضل إخراج وأفضل ممثلة، بمشاركة جورجي سيفاستو وجورجينا هاجي وبازماكلاستير.
ملده شويكاني