ثقافة

في رحيل الفنان محمد الوهيبي: نصوص مثقلة بالفقد والدلالة

تعتبر الكتابة بين الأصدقاء من أكثر الكتابات حمولة بالعاطفة والمجاز، خاصة حين تتناول سيرة بعض الراحلين منهم لتأخذ طابع الرسائل المسكونة بالأ=نا المقيم عند الآخر تقديراً ومحبة، فهي كتابات غير عادية أيضاً حينما يملؤها ما هو معاش بالتجربة الغنية بالإبداع والتأليف الشغوف بجماليات الحياة ومفرداتها الأثيرة.
وقد رصدت عبر مواقع التواصل الاجتماعي والصحف أصداء رحيل الفنان التشكيلي محمد الوهيبي الصادم لأصدقائه ومحبيه ومتابعي أعماله الفنية، الذين عبروا عن حزنهم وألمهم وعن إحساسهم بالخسارة التي لا تعوض، وقد وصفه أحدهم: كائن  عفوي وجميل بسيط بمفرداته الحياتية عميق بما دون ذلك بعيد عن أي تعقيد يشع بلمعان داخلي، دافئ وحميمي مثل شعلة نار بشتاء بارد. وقد كتب بعض أصدقائه من الشعراء والكتاب نصوصاً عامرة كما أسلفت بالعاطفة، ومن هذه النصوص التي تستذكر الراحل ما كتبه الشاعر عادل محمود في بداية مقاله المنشور على صفحته:
“قال الأستاذ بعد أن رأى ولداً يتعرق بشدة وهو يرسم خارطة العالم: لماذا أنت متعرق إلى هذه الدرجة؟ فقال محمد: لقد وصلت إلى خط الاستواء”. كان محمد الوهيبي ذلك الولد الفلسطيني الذي يتعرق خجلاً وهو يرسم خارطة العالم في مدرسة مخيم خان الشيح في خمسينيات القرن الماضي.
عاش حياته يودعنا فعلاً، وكان أسفه مخفياً ومعاناته من هذا الاقتلاع الجذري صامتة، وهاهو لا يحمل شيئاً معه سوى ذاكرته والتذكرة ذهاباً فقط. يبدو كشاعر رعوي يقلم أغصان الشيح لتنمو البراعم من أجل ماعزه الجبلي الذي ساعده على اكتشاف هذه الكمية من بلاد غادرها بلا عودة.
يذكر عادل محمود أنه كتب للوهيبي يوماً: “أنت شاعر البصريات راعي ماعز سليمان في الجليل، مغني الناي في الثقب الأخير من هواء الخزان، أنت تدير وجهك للمدينة والمدينة تدير ظهرها لك، خيم حيث شئت فوطن اللوحة واسع وسخي، فيما البلاد تمعن في أسفارها نحو ماض لن يعود”. وبالفعل فقد كان الوهيبي يسجل عجزه حينها عن ارتكاب مديح المحب فيكتفي بالقول: “جميل..”.
ويستعيد عادل أمام لوحة معلولا التي رسمها الوهيبي متأملاً مقدرة هذا الفنان على التماهي في روحية القداسة والبدائية الطاهرة التي يعيشها وهو يرسم معلولا فقد أنقص من وزنه النوعي ليليق بقبره. إن غيابه موت معلن ومؤكد قبل الوفاة ذلك لأن الاقتلاع هو العملية الأكثر إيلاماً في تاريخ البشرية والأقرب إلى كونها أداة موت.
في نص جديد كتبته الشاعرة هدى محمود في يوم رحيل الفنان بعنوان “حفار الوقت” في استعارة من شخصية الفنان الغرافيكي المشغول بالزمن والأسطورة الكنعانية:
“هناك بين منحدر الغياب وارتفاع الوضوح..صعدت تلفك النقوش إلى فلك تفاصيل روحك، تشعل الشموع لتبدأ طقس التوحد بين الضوئي والعدمي، تلقن الغياب رموزه، تتلو عليه التعاويذ لينجلي ضباب وحدته، وتملي على الفضاء تعاليم الجرح المنقوش بكعب غزالة شردت لتملأ السماء بنجوم ذاهبة إلى ضوء أرواح امتزج بريقها بصفاء المعنى.
الآن تصهر طينك الأول بماء السماء، لتولد عشبة الأزل في كلام النهر، أيها الذاهب في النحاس، العائد في اللجين. هنا على حافة الذهول تستقبلك النساء مكللات بالشيح، يرفعن الأباريق في حضورك ليشرب الغيم نخب البحيرة ويعلو غناء النوافير.. ها نحن نصغي للضوء أكثر في يديك، نلقي السلام على أول الفجر، ياحفّار الوقت، نجنّا من لسع عقارب هذا الزمن وخذنا إلى رصد نقش في حصى قاع طبرية.
ها أنت تشعل ليل غربتك وغربتنا بتفتح ياسمين قلبك على أسوار دمشق، وتوصي العصافير أن تبقى مآذن تملي علينا صلاة الضوء كي لا نعجز عن منح أرواحنا جناحين”.
وقد وقع بين يدي بعض مما كتبه الراحل عبد الرحمن منيف في تقديمه لأحد معارض الوهيبي في تسعينيات القرن الماضي:
“جميل أن تكون ذاكرة التراث، طريقة في اكتشاف علاقته بكل ما حوله من أشياء وأفكار ورموز. الوهيبي فنان يعذبه السؤال ويحرضه، حتى في اللوحة المثقلة بهذا الكم الهائل من الدلالات والإيحاءات، يريد أن يقول أشياء كثيرة ولا شك في أن قوله يحمل سؤالاً محضاً، فيه تحريض على البحث والتساؤل، وهذه ميزة الفلسطيني السائل دائماً، الحائر بقلق والمتطلع أبداً.. إلى الماضي والمستقبل معاً.
أكسم طلاع