ثقافة

في تحليله لأغنية «الحلم» لأم كلثوم أنس تللو: كتبها زجَّال عبقري وحكاها موسيقيّ مبدع

لأنه سر من أسرار النجاح الكبير الذي حققته أم كلثوم في مسيرتها الفنية كان على الباحث أنس تللو عند تحليله لأغنيتها “الحلم” في محاضرته التي ألقاها مؤخراً في مجمع دمَّر الثقافي أن يشير إلى ميزة الإنصات التي كانت تتمتع بها، داعياً الحضور إلى التمثل بها حين أطلق العنان لصوت أم كلثوم ليصدح في أرجاء القاعة، مؤكداً لهم أنه سيعيدهم سبعين سنة إلى الوراء، راجياً منهم ألا يحكموا على ما سيسمعونه بعقلهم الحاضر، حيث اختلفت العقول وتباعدت الأهواء، منوهاً إلى أنه ورغم استماعه لهده الأغنية مؤخراً أكثر من سبعين مرة  يشعر أنه سيسمعها معهم وكأنها المرة الأولى، وهي الأغنية التي اجتمع فيها عمالقة ثلاثة: الشاعر بيرم التونسي والملحن زكريا أحمد وكوكب الشرق أم كلثوم.

شاعر الشعب
يعترف تللو أنه رغم ترداده في العادة معاني عالية لقصائد فصيحة مثل “أغداً ألقاك” إلا أنه وجد أن أغنية “الحلم” تحوي معاني عميقة جداً، ويحصل متتبعها على النشوة العارمة من الاستماع إليها، وقد يصل إلى مرحلة الطربية الحقيقية، مشيراً إلى أن ناظمها بيرم التونسي شاعر مصري ذو أصول تونسية، وهو من أشهر شعراء العامية المصرية، ولِد في العام 1893 وتوفي في العام 1961 وعاش بين الناس وتفاعل معهم، وأبدع في نظم الزجل، فكان حافظ إبراهيم يقول عنه: “أكثر ما أخاف على الشعر العربي من زجل بيرم التونسي لأن فيه موسيقى شعرية ووزناً شعرياً لكنه بالعامية وليس بالفصحى” مبيناً تللو أن التونسي كتب الأوبريتات والمسرحيات الغنائية ولُقِّب بشاعر الشعب، وامتاز بالتصوير الشعريّ الدقيق من خلال كلمات بسيطة زاهية، متناولاً في شعره موضوعات شتى، اجتماعية ونقدية وساخرة وغزلية، وأجمل شعره كان في رثاء ابنه في زجليته “الأوله في الغرام”.

أصم لا يسمع إلا صوتها
يقول تللو عن زكريا أحمد ملحن “الحلم” أنه كان نبيهاً جداً، ولفرط نباهته طُرد من الكتّاب ثم من الأزهر، وقد جال مصر شرقاً وغرباً يستمع إلى كل أصناف الموسيقا ويهضمها حتى التقى بسيد درويش ثم أم كلثوم في العام 1918 حين كانت في بدايتها، فأعطاها موشحاً وطقطوقة، ثم اجتمعا في سهرة ضمَّت محمد القصبجي و”أبو العلا محمد”، ومنذ تلك الليلة قال زكريا أحمد في مذكراته إنه أصم لا يسمع إلا صوتها، أبكم لا يتحدث إلا باسمها، فقد غدا مفتوناً بصوتها وفنها، وأوضح تللو أن التونسي اشترك مع أحمد وأم كلثوم في ثمانية عشر لحناً.

مطربة غير عادية
وحين نتحدث عن أم كلثوم فإننا لا نتحدث عن مطربة عادية بل عن مطربة تتقمص الحدث وتغوص فيه، مبيناً تللو أنها كانت تعيش قصة أغانيها بحسها الإنساني الدافئ، فكانت تدخل في صميم الأحداث وتعتبر نفسها جزءاً منها حتى ليشعر المرء أن قلبها الكبير قد احتوى كل تلك العواطف التي كانت تتحدث عنها بصوتها القادر والمتكّمن، موضحاً أنها التقت مع  زكريا أحمد فأعطاها ألحاناً من كل أنماط الغناء العربي.

الحلم
في العام 1947 وبعد نجاح مجموعة من المونولوجات الرائعة بالتعاون بين الثلاثي التونسي وأحمد وأم كلثوم وهي “حبيبي يسعد أوقاته-الآهات-أنا بانتظارك-أهل الهوى- الأوله في الغرام” وعدد آخر قدمت سيدة الغناء العربي رائعة أخرى هي مونولوج “حلم” ويذكر تللو أن المنولوج هو غناء إفرادي يحكي قصة لها مضمون وبداية ونهاية ويستعرض فيه المطرب قدرات صوته.
يحكي مونولوج “حلم” حكاية حب وفرح ولقاء حبيب، وقد جاءت كلماته معبِّرة تعبيراً دقيقاً عن فرح المحب بلقاء حبيبه وما يعتريه من مشاعر سرور وغبطة، فرسم التونسي فيه صوراً شعرية ساحرة بكلمات عامية بسيطة تدخل إلى قلب المستمع، وقد حكاها موسيقياً المبدع أحمد بجمل موسيقية تضمنت روح السعادة وجوهرها، مع زخرفة إيقاعية في غاية الروعة، وكما جرت العادة بتلحين المونولوجات آنذاك فقد بدت المقدمة الموسيقية كما يوضح تللو قصيرة نوعاً ما، لكنها مشبعة بالطربية العالية والإيقاع السريع، وقد رغب الملحن باستخدام مقام يوحي للمستمع بالنشوة والراحة النفسية والفرح لتدخل أم كلثوم الغناء بروحها قبل لسانها حتى تصل إلى درجة ساحرة تأخذ بلبِّ المستمع، لتكررها في كل مرة بطريقة مغايرة، وهنا تكمن عظَمة أم كلثوم برأي تللو وقدرتها الفائقة على التلوين بصوتها من خلال لحن استعرض أحمد فيه مهارته الفنية الرائعة في الانتقالات المقامية والتلوين لتتجلى بوضوح براعة الملحن وعبقريته، فبدا واضحاً انفعال أحمد بجمله التي لحنها من مقامين مختلفين وذلك بتناغم قلَّ مثيله في الموسيقا العربيةولأن أم كلثوم أرادت أن تتحدى الملحن وأن تظهِر موهبتها الشخصية الفذة في التفريد على الرغم من أن اللحن طربيّ بشكل هائل، فقد استعرضت كما أشار تللو مهارات صوتها بالتفريد في بعض مقاطع هذه الأغنية وهي التي كانت دوماً تضفي بتفريدها شيئاً جديداً للّحن يسلب عقل المستمع بمهارة فائقة تدل على قدرتها على التفريد أولاً ثم إلمامها بالمقامات الموسيقية، وتساعدها على ذلك حنجرة جبارة ورائعة.. ولكي تكتمل الصورة بشكل رائع في أغنية “الحلم” يوضح تللو أن الزجّال العبقريّ لم ينسَ عنصراً أساسياً في هذه اللوحة المبدعة التي رسمها، حيث أراد أن يصور مكان هذين العاشقين، المكان الشاعريّ العظيم الذي له دور كبير جداً في تأجيج المشاعر وإلهاب نار الشوق حيث الهدوء الذي يدفع إلى التأمل، والسكون الذي يقود إلى السكينة، تتخاطب فيه الطبيعة حيث الغصون تتهامس بصوت بديع، والقمر ينظر ببراءة تامة، ليكمل أحمد هذه الصورة الرائعة بتصوير السكون لحناً رائعاً مبدعاً جعلنا نستشعر الليل وجماله وسكونه ومنظر القمر والغصون والنسيم الهادئ:
مافيش غير الغصون تهمس/ولا غير القمر ناظر/ولا غير  النجوم  تؤنس
ولا غير النسيم  عابر
وعلى غير العادة يشير تللو إلى أن أحمد أقفل الأغنية بمقام موسيقي آخر ولم يرجع للمقام الأول إحساساً منه أن هذا المقام يعطي بعضاً من الدهشة الممزوجة بالمرح، فكانت المفاجأة بأن كل ما حصل كان حلماً:
وحلم وطار مع الأحلام/يا ريته دام ودام نومي/كده أعوام وأنا وهو/في دي النشوة نعيش في سلام/ولو ولو في منام.
أمينة عباس