ثقافة

مواقف شاذة

عماد الدين إبراهيم
(قد نختلف مع النظام لكننا لا نختلف مع الوطن, لا تقف ضد وطنك حتى لو كان الوطن مجرد مكان ننام على رصيفه ليلاً).
هذا القول للكاتب الساخر والصحفي المصري الراحل جلال عامر, أبدأ به قبل الدخول في موضوع المقالة التي تريثت طويلاً قبل أن أكتب عنه لعل غيري من المتابعين للشأن الثقافي في صحفنا ومجلاتنا الثقافية يتناوله, وعندما لم يكتب عنه أحد, عزمت على الكتابة كيلا يمر الأمر بغفلة منا, فهو موضوع هام برأيي, يتعلق بموقف صدر عن شخصية أدبية وثقافية سورية لها مكانتها المرموقة في بلدنا, وعندما يصدر مثل هذا الموقف عن شخصية كهذه, فان خللاً ما يحدث, وغياباً للعقل والمنطق والمحاكمة الموضوعية يتغلغل في تلك الشخصية وينخرها.
هذا الأديب الذي حظي بالتكريم والتقدير في وطنه, واحتفت صحفنا ومجلاتنا الثقافية بكل نتاج أبداعي صدر له, ونال من التقريظ والمديح والإطراء الشيء الكثير, في الأدب عامة وفي فن القصة القصيرة خاصة, ما جعلني أستغرب تنكُّرَهُ للطبقة التي خرج منها, وادعى دائما انه يقف في صفها, وطَعْنَهُ لوطنه الذي يعاني الآن ما يعاني من الإرهاب والحرب عليه, وجحودَهُ لدور الجيش العربي السوري – وهو المكوَّن من الفقراء والشرفاء – في الدفاع عن الدولة والشعب من الإرهابيين وأصحاب الفكر الظلامي التكفيري.
لقد عجبت عندما سمعت هذا الكاتب يتحدث عبر إحدى الإذاعات الغربية الناطقة باللغة العربية, وفي احتفالية أقيمت لتكريمه بمناسبة ترجمة أعماله, يتحدث مطالباً بحلِّ الجيش العربي السوري متهماً إياه بالإرهاب وبأنه السبب في كل ما تعاني منه سورية.
لم أسمع في حياتي وفيما تناهى إلى معرفتي أن كاتباً أو أديباً يطالب دولاً لها تاريخها الاستعماري لوطنه, بحل جيش بلده, ويعتبر هذا الجيش إرهابياً, خاصة أن الجيش العربي السوري الذي واجه ويواجه المعتدين على بلدنا, من الكيان الإسرائيلي الذي يغتصب جزءاً من أرضنا إلى جحافل الإرهابيين والتكفيريين الذين يحاولون تحقيق ما عجز الإسرائيلي عن تحقيقه, فكيف يريد هذا الكاتب من بلد يمر بهذه الظروف, وفي منطقة كمنطقتنا تحيق بها الحروب والطامعون من كل جانب, أن يكون بلا جيش يحميه ويدافع عنه, ما معنى ذلك؟ وفي أي إطار تأتي هذه الدعوة؟ وممن؟ من مواطنٍ وأديبٍ يُفترَض أن يكون واعياً لحجم الخطر الذي يهدد وطننا ومنطقتنا, لقد بتنا نسمع الآن أصواتاً من شخصيات سياسية وثقافية غربية تعترف – بعد طول إنكار – أن الجيش العربي السوري يحارب الإرهاب نيابةً عن العالم أجمع, فأين يعيش هذا الكاتب؟ وماذا يريد من وراء ذلك؟ وكيف يتوافق هذا الموقف مع ادعائه أنه في صف الفقراء والمُستَغَلِّين.
أسئلة كثيرة نشعر بالحيرة أمامها ولا نجد لها تفسيراً, فإذا كنا نبرر للناس البسطاء قليلي الثقافة أن يتمكن الإعلام المضلل والمنافق والكاذب من التغلغل في عقولهم, ويقلب الوقائع والحقائق على هواه, ويسوقهم في تياره, فما مبرر وقوع شخصيات أدبية وثقافية لها مستواها المرموق في مجال الأدب والفكر؟!
يبدو أن أديبنا هذا الذي حذَّر من الترويض والخنوع في أدبه, قد وقع فيما حذّر منه, وأصابه ما أصاب نموره في اليوم العاشر بعد طول إقامة في الغرب, أو أنه وجد ربيعه في هذا الرماد الذي يخفي تحته جحافل الظلاميين والقتلة, إن أمثالَ هذه الشخصيات الأدبية والفنية لا تتحكم بمواقفها أفكارُها وثقافتُها, وإنما أحقادُها, لذلك نجد صعوبة في إيجاد تفسيرٍ منطقي لسلوكها, وقد صدق الشاعر القائل:
إنَّ الحَقودَ و إنْ تقادَمَ عهدُهُ    فالحِقدُ باقٍ في الصدورِ مُغَيَّبُ