ثقافة

مسرحيّة زجاج: فنّ الأداء المنضبط بالدراماتورجيا

أي: كدراما؛ إنّه الحجر الذي أُلقي في ماء ساكن، ومن دوائره المستحدثة نجمت الحبكة، التحوّل الثاني هو تحوّل (التحقّق والتمثّل) عندما تظهر عبر الأداء كل سمات الشخصيّة حين خافت وترددت في فتح الباب، التحوّل  الثالث عندما  تقرّر ديمة المشاركة في الحديث، وذلك في منتصف مشهد الذروة المبني على الجلسة والحوار على السجّادة المتوهّجة اللون، أمّا الرابع فهو القبلة التي تطبعها على شفتي الشخصيّة الداعمة، إنّها مذ أخذت تحكي عن ألعابها الزجاجية سحبت تماماً زمام  قيادة القصّة من جمال نفسه، ومن سائر الشخصيّات .
يمكن اقتراح مُختصر للقصّة كالتالي: ديمة، 24عاماً، تنسحب من المشاركة الاجتماعية تحت وطأة الظروف المجتمعيّة، وظروف الماضي، وهما ما تستحضره الأم دائماً، بالاستذكار وبالنصائح المُرهقة، فلا يعود أمامها إلّا الاحتجاج سلبياً، وذلك بالخروج عن الطريق الضيّق المرسوم من الأم، فتُحجم عن الذهاب إلى معهد اللغات، وتجوب الشوارع في زمن الدروس، ولا يعود من قيمة لديها إلّا أن تعتني بمجموعة تماثيل لحيوانات زجاجية صغيرة، تشترك معها في الهشاشة والشفافية، تقوم الأم باستجلاب شاب كخطيب محتمل، فتكتشف ديمة أنّه أضغاث حبّها القديم، وتجلس بجانبه في مواجهة مع عالمها الداخلي.
لكن أين هي شخصيّة (الابن – كنان حميدان) ولماذا لم تظهر في اقتراح المختصر السابق؟ إنّه ببساطة شخصيّة وظيفيّة، يمكن تسميتها بالشخصيّة الثانويّة – الكاشفة،  ذلك ما نجحت الدارماتورجيا بتحديده تماماً، فوظيفته هي تسليم الظروف للجمهور؛ من زمان ومكان وطبقة اجتماعية، بافتراض أن الحديث مع الكاميرا، وأيضاً المجيء بالشخصيّة الداعمة جمال، وأخيراً في تأسيس مرحلة النهاية التي تتجسّد بسفره، في البداية يكون بديلاً للستارة التي تفتح، وفي النهاية عن الستارة التي تنغلق، الشخصيّة الرئيسة كلاسيكياً تكون هي صاحبة الظهور الأكثر، لكنّ واحدة من مهارات هذا النصّ، والتي طوّرتها الدراماتورجيا، هي في تقديم شخصيّة رئيسة غير متوقّعة، تعتلي بمفردها فجأة ذروة الحبكة، يُساعدها على ذلك الديكور بإتقان. الألوان الدافئة للسجادة والأريكة قريبة من عالم الشخصية الداخلي، ومن الزجاج المتوهّج بالنار الذي تحكي عنه ديمة بشغف، وهما السجادة والأريكة معاً يشكّلان مسرحاً داخل مسرح، في حين تتوازن معهما الكراسي ذات اللون القشدي المائل للأصفر، وبينهما المائدة بغطائها ذي اللون المحايد، التوزيع هنا يُراعي معادلة الاتجاهات بين يمين ويسار الخشبة، مع فراش أرضي خلفي فقط للإشارة إلى الحالة المعيشية للأسرة، ذلك كان في الفصل الأوّل – على افتراض أنّ مشاهد ما قبل الفاصل أو الاستراحة هي الفصل الأوّل وما بعدها هو الثاني – في الثاني يطرأ تعديل على تلك الكتلة المكانية اللونية؛ يظهر غطاء بلون بارد على الأريكة، المكان الذي تنتمي إليه ديمة وتبقى السجادة على حالها، وأيضاً تنسحب المائدة إلى خلفية الخشبة يساراً، لتهيمن على العمق، بينما الأريكة في المقدمة أو في الحيّز الأقرب إلى منطقة الأمام، ذلك ما خدم القصّة كثيراً، سواء في محاكاة سمات الشخصيّات، أو في اقتراح “ميزانسين”ملائم، فعند مجيء ديمة بحركة قوس يبتعد عن الطاولة حيث يجلس الثلاثة، واضطجاعها على الأريكة، فإنه يتحقق عبر الديكور علاقة الشخصية بالظروف، بالماضي، بالعقبة الكبرى، الثلاثة الآن – من خلال الشخصيات الثلاثة – يجلسون معاً، ويشربون ويضحكون، إنّهم أرضيّة معاناتها التي تهيمن على العمق، عمق الخشبة وعمقها هي، بينما هي منطوية وصامتة في بؤرة الأهمية الأمامية، الحوار الممتزج بالكونياك يختصر أرضيّة معاناتها، ذلك تعامل جيّد مع الديكور.
البداية في الفصلين، بترك الممثلين في حالة جمود تنجح في تحفيّز عنصر التشويق، بطريقة تحاكي الـ (PAUSE) في الفيلم، وتمهّد لعلاقة مع الجمهور قبل بداية الفعل الدرامي، تتحقق مرتين وذلك في بداية كلّ فصل، الفصل الثاني يشتمل على مشهدين فقط، الذروة والخاتمة، مشهد الذروة يظهر عبر مراحل مُتقنة البناء: مرحلة تهيئة الأم للبنت كخطيبة، مرحلة سرد الأم لأقاصيص تُزيل التوتّر فتنفرج ملامح الابنة، مرحلة قرع الجرس والتردد وراء الباب، مرحلة فتح الباب والاضطراب، مرحلة انسحاب الابنة، مرحلة بدء العشاء، مرحلة مجيئها، مرحلة استئناف العشاء وتناول الكحول، هنا يمرّ زمن واقعي لا يخدم القصّة، وهو الفترة التي تحتاجها الألسن كي تثقل جرّاء الشرب، فيتعاطي معها الإخراج بطريقة تشبه طريقة الـ (Fade in) في الفيلم: إظلام، ثم إضاءة يختصران مرور الزمن، بعد ذلك تنسحب الأمّ والأخ، ليأتي الشخصيّة الداعمة للجلوس مع الرئيسة، على السجادة الدافئة الأقرب إلى خشبة ضيقة داخل خشبة، مصطحباً معه الإضاءة الخاصة بالمشهد، الشخصيات هنا تؤسس إضاءتها بنفسها، في استغلال (الآن –هنا)  فهم يعيشون في مدينة تنقطع فيها الكهرباء، هنا تقع الذروة الثانية، الأولى بدأت منذ ظهور ديمة بحلّتها الجديدة، والآن الذروة الثانية، مجيء جمال للجلوس معها، فيستأنف خطّ الحبكة لهذا المشهد صعوده، وعندما تبادر بالكلام تقع الرابعة، والخامسة عندما تجلب مجموعة الحيوانات الزجاجية وتشرح عنها، لدينا أيضاً الرقص، والقبلة، ما يجعل هذا المشهد يشكّل بمفرده بناءً متكاملاً، ويجعل كل ما وقع قبله – رغم طول زمنه الدرامي – مجرّد تأسيس له فقط، هذا قد يؤدّي إلى إشكاليّة وفق معادلة: ماذا يتذكّر الجمهور بعد المشاهدة ومغادرة الصالة؟ ربّما يكون هذا المشهد من أكثر ما يمكث في الذاكرة، خصوصاً أن الأداء فيه مغاير للمبالغة التي ظهرت في المشاهد السابقة عليه، من الأم والابن، ليس كهذا المشهد، فكلّ حركة فيه وتفصيل أتت بشكل جيّد منضبط ومُتقن، من الشخصيّتين معاً، من جمال عندما أخذ يتذكّر بصعوبة، ليتخلّى عن أوهام ما حفظه وتلقّنه من معلومات، فكشف عن مهارات تمثيلية لافتة، ومن ديمة في مرحلتي الصمت والكلام؛ الواضح أن الجهود المبذولة على إدارة وتوجيه الممثل كبيرة، في تجاوز لمشكلة باتت من ملامح المسرح السوري، وهي القطيعة بين الدراماتورجيا وإدارة الممثل، هنا الممثلة والممثل، يعكسان تماماً الظروف، سمات الشخصية، ماضي القصّة، الطبقة، الأهداف، العقبات؛ الأداء هادئ، منسجم، غير متكلّف، بعيد تماماً عن المبالغة، في شرط صعب وهو أن يكونا جالسين زمناً طويلاً من المشهد، لا حركات أيدي فائضة غير مبررة، لا فعالية جسمية زائدة، لغة أعين وتفاصيل وجه دقيقة ومواتية، طبقة صوت تسلّم المشاعر كما ينبغي، أحياناً يتبدّل القصد التأثيري الدرامي الاندماجي بين جملة وجملة، بين كلمة وكلمة، مع استغلال كامل لفترات الصمت التي تصغي فيها الشخصيّة للشخصيّة الأُخرى، فيتداخل ويتفاعل صمت الأولى مع ما تقوله الثانية.
قد لا تكون موسيقى (تريب – هوب) منسجمة مع القصد الاندماجي للمشهد الافتتاحي، أو مع العمل ككل، لأنّها تقترح مناخاً بعيداً عن حيّز الشخصيّات الدرامي– الجغرافي- الطبقي، لكنّها مقبولة لأنّها (دايجاتيك) أي: قادمة من داخل عالم القصّة، فهي خيار شخصيّة الابن الكاشفة، والتي تنسجم منطقيّاً وقصصياً مع عالم عمله وأصدقائه، أي مع الظروف، وبذلك لا يُعوّل على تداخل  كلمات مثل “معلّم على الصدعات قلبي” معها، وفقاً للفرضية القصصية فقد حدث واختارها الشخصيّة، ولم يخترها صانع العمل، لأنّها ليست قادمة ومدرجة من خارج القصّة كموسيقا مصاحبة، شأنها في ذلك شان الأغراض غير الأدائيّة، كإطار الغلاف الذي تركه الوالد على الحائط، مع التلفزيون، ما سبق ساهم بتأسيس عنصر حركة أعين الجمهور على الخشبة، فالشخصيات كانت تتكلّم أحياناً وتُشير إليها، ما يسترعي أنظار الجمهور بمتابعة ما يُشار إليه، فيتحقّق بذلك “ميزانسين” بصري متفاعل مع الحركة على الخشبة، يدفع الأعين هي نفسها للحركة عبر أبعاد الخشبة.
البروشور كان ملفتاً ببساطته، وباختياره لنفس الفئة اللونية للسجادة والأريكة، كما أن خيار وضع قصيدة (كمنغز) عليها كان موفقاً وجيداً لأنّه يحاكي مزاج النص ويملأ مساحة درجت العادة على ملئها بكلمات عجائبية عن أهمية المسرح، هذه القصيدة مهّدت لمزاج العمل، فقط لولا أنّ ترجمتها ركيكة جداً، وتجعلها أقرب إلى قصيدة أُخرى مختلفة.
بشار عباس