ثقافة

عبد الحميد الديـب.. شاعر البؤس والحرمان

عبد الحميد الديب شاعر وأديب مصري تكشف قصائده المبعثرة على صفحات الصحف والمجلات عن إمكانيات شعرية وفنية كبيرة, ولو أتيحت له فرصة لتنمية مواهبه بالثقافة وحماية حياته بشيء من الاستقرار المادي لكان له شأن كبير في تاريخ الأدب المعاصر في مصر, ولأصبح واحدا من أكبر الشعراء العرب في القرن العشرين, لكن هذا الشاعر البائس عاش حياة لا يمكن وصفها إلا بأنها حياة مأساوية سيطر عليها البؤس والضياع, وعانى من هذا الوضع المتدهور معظم سني حياته التي امتدت خمسة وأربعين عاما حتَّى لُقِّبَ بـ”وريث الصعاليك”.
ولد عبد الحميد الديب في تموز عام 1898م بقرية كمشيش في أسرة بائسة يعمل الأب تاجراً للماشية وكان جُل نشاطه في المواسم والأعياد، نظراً لطبيعة الوضع الاقتصادي للقرى المصرية في ذلك الحين.
ألحقَ الأبُ ابنَهُ بالكُتّاب في قريته ليحفظ القرآن الكريم، وكان يحلم بأن يصبح ولدُه شيخاً في الأزهر، لكن كانت لـ”عبد الحميد” مآربُ أخرى من مخالطته للأزهريين، فعن طريقهم حصل على دواوين أعلام الشعراء العرب كالمتنبي وابن الرومي والمعري وأبي نواس وغيرهم، فأشبع بها نهمه إلى القراءة، ورأى في نفسه هوىً إلى الشعر الحزين الباكي الذي يرثي النفس ويتقطع عليها أسىً، فوجد فيه تصويراً لحاله، ومواساةً لبؤسه وحرمانه.
توجه إلى معهد الإسكندرية الديني في عام 1914م، ليواصل تعليمه الأزهري، فانفتحت أمامهُ آفاقٌ جديدة من الإدراك والوعي بالجمال والثقافات المختلفة، أنهى الديب دراسته في المعهد والتي تؤهله للالتحاق بالأزهر الشريف، إلا أنه لم يستسغ العلوم الأزهرية فانضم إلى مدرسة “دار العلوم” لأنه عَلِمَ بأنها تمنح طلابها مكافأة شهرية لإعانتهم على نفقات معيشتهم ودراستهم.
تمضي الأيامُ بالديب في دار العلوم في نوع من الاستقرار المادي أتاح لهُ النبوغ في الشعر، حتى أصبح الشاعر المرموق المحبوب بين أقرانه، والأثير لدى أساتذته. وجاءه خبر وفاة والده ثم والدته تباعاً وهو في القاهرة، فشعر بالضياع وعبثية الحياة، وعاد إلى كآبته، مُهملاً نفسه ودراسته التي كانت من عوامل استقراره النفسي, وانكبّ الديب يرثي والديه ويتذكر حنانهما.
عاصر عبد الحميد الديب جيل طه حسين والعقاد والمازني, وهؤلاء خرجوا من الطبقات الفقيرة إلا أنهم ارتبطوا بأحزاب سياسية استفادوا منها وقدمت لهم المساعدة, لكن الديب لم يفعل ذلك إذ كان ذا نظرة بسيطة وفطرة تلقائية, فرأى في الأحزاب صراعا على المصالح فرفضها كلها وسخر منها علانية, وقال فيها شعراً:
برامكةٌ وليس لهم رشيدُ                وأقيالٌ وكلهم عبيدُ
مدحتهم فما شَرُفوا بشعري            لِخِسَّتِهم, وما شَرُفَ القصيدُ
عاش عبد الحميد الديب حياة صعلكة وتشرد واستسلم لِما أصابه من بؤس وواصل موقفه الساخط على كل شيء, واكتفى بان يبكي حظه ويشكو ما أصابته به الأيام, يقول:
حظي هو الأيكة الخرساء ذابلة       هو النسيم سَموماً غيرَ خفاقِ
هو السحابُ جَهاماً والندى أسِناً   هو الضياءُ به موتي وإحراقي

لقد قنع الشاعر بوضعه, ووصل إلى حالة من الرضا بمصيره البائس, وقد أصبح مشهورا بين المشتغلين بالأدب والصحافة في عصره بهذه الشخصية البائسة والمشردة, ويجد في ذلك مصدرا للإلهام الشعري, كان الكثيرون يستمعون إلى قصائده ويتخاطفونها, وبذلك أصبح الديب يمثل دوراً نجح فيه كل النجاح, ولا يتصوره الناسُ إلا فيه, وبذلك تفرد عن شعراء وأدباء عصره. يقول:
يقولون: موهوبٌ على عبقرية      فهل عبقري يعيش بجوعي؟
فأقدمتُ للعيش الكفاف مجنداً       مواهبَ لم تُخلق لغير رفيعِ

عبد الحميد الديب هو صاحب أشهر قصيدة بذيئة في الشعر المعاصر, وهي قصيدة حفظها بعض الشعراء المعاصرين له, لكنها توشك على الاندثار والضياع لأن أحدا لم يستطع نشرها في دراسة عن الشاعر, ولم يعرف له أحد سوى هذه القصيدة, رغم أن له أشعاراً أخرى متفرقة تتضمن هجاء عنيفا لبعض رجال الأدب والصحافة في عصره, كما كان يصور فيها سخطه الشديد على وضعه البائس وإهمال المجتمع والناس له.
التقى الشاعر الديب بالموسيقار سيد درويش في مطلع عام 1923م، رأى فيه درويش كنزًا شعريا ثميناً ينظم له المطلوب من القصائد والأغنيات، بينما وجدَ الشاعر في درويش ضالتهُ التي ينشدها من رخاء العيش، وكعادةِ الدنيا لا تصفو لأحدٍ، فقد وافت المنية “سيد درويش” في 1923م، وكانت صدمة كبيرة للديب، فما كادت أحلامُه تتحقق حتى دُفنت مع صديقه تحت التراب. فعاد مرة أخرى إلى الهيام على وجهه في الطرقات وبين المقاهي والحانات يعاني الجوع والتشرد.
لقد كانت حياة الشاعر عبد الحميد الديب ثمرة لسوء الأحوال الاجتماعية والأدبية في عصره, اقترنت تلك الظروف بضعف في إرادته وهمته أودت به إلى الإدمان واستسلم لحالة الضياع حتى انه كان ينام في المسجد والحدائق العامة وعلى الأرصفة, والملفت للنظر أن الشاعر لم يكن قادرا على القيام بأي عمل في الحياة سوى كتابة الشعر, وهو أمر لم يكن مفهوما أو مقبولا من أحد, روى عنه صديقه الأستاذ فتحي رضوان في كتابه: “عصرٌ ورجال” ما يلي: “كان كسولاً يكره العمل ويضيق بالنظام والرتابة، ويعشق التجوال”. و كان ينطبق عليه قوله:

وهام بي الأسى والبؤسُ حتى        كأني عبلةُ والبؤسَ عنتر

لم يعش عبد الحميد الديب في هذه الحياة سوى نيف وأربعين عاماً؛ إذ لقي مصرعهُ إثر انفجار في المخ لم يمهله إلا ساعات وكان ذلك في نيسان من عام 1943م.
عماد الدين إبراهيم