ثقافة

على منوال ما تقوم به المجلات المتخصصة في العالم قريباً كتاب “المعرفة” الشهري مع مجلة المعرفة

الفنون التي تجمَع أكثر من فنًّ معاً يحتار في تصنيفها النقّاد، بل وفي نشأتها أيضاً، لأنّ الرأي في نشأة فنّ ما، هو فرع عن صفته، كالذي يجري فحصا للجينات لكي يعرف الأب الحقيقي عند اختلاط الأنساب، فصفات الوليد حَكَمٌ جيّد على نسبته، إلا أنّ للتاريخ كلمته أيضا، ومن هنا سننطلق.
أقدم أصل يمكن أن نردّ له “اللطميات” هو شعر الموثّبات (ما يدفع للوثوب) الذي كانت تنشده النساء باكيات إذ تُقدّ الجيوبُ وتُدَقّ النحور، في جنازات المقتولين تحريضا لذويهم من الرجال على الثأر لهم من قاتليهم، وقد يكون في غير ذلك من حالات الحزن أو طلب الثأر، فقد اتصل لنا أنّ “كليبَ وائل” استثارته أخته “الزهراء” بالموثبات ليقتل صهره “لبيداً” عاملَ الملك الكنديّ بعد أن لطم زوجته الزهراء قائلا فليردّها عليّ إخوتُك إن استطاعوا، فكانت تنشد:
ما كنتُ أحسبُ والحوادثُ جمّة / أنّا عبيد الحيّ من عدنانِ
حتى أتتني من لبيد لطمةٌ / تعشى لهَوْلِ وقوعها العينانِ
فقال: إني قتلت لبيداً. في تأكيد منه على أنّ ما يهمّ به في عِداد الماضي والحتم المقضيّ.
وهنا ومن سيرة “حرب البسوس” نحن أمام أصل آخر لفنون النعي وهو رواية السِّيَر (تغريبة بني هلال، الزير سالم، وغيرها من النسخ الدينية أيضا) وما يصطلح عليه اليوم بفنّ الحكي، أي ما يمارسه الحكواتي (الاسم الشامي المشتق من الحكاية) والحلايقي (الاسم المغربي المشتق من جلوس الناس في حلقات حوله للسماع) والراوي (الاسم شائع في مصر وسائر البلاد) والمجاريد في إفريقيا مثلا فالأوزان واحدة حتى مع اختلاف اللهجات العربية، ومن هذه الأطوار مراحلُ مجلس النعي من مقدّمة، ومدخل، وحماسة، ومصيبة…الخ،إلا أنّ اسم (أطوار النعي) يختصّ بأساليب الإنشاد من قبيل (الدرج، والدشت، والمثكل، والزيرجي، والدورقي (نسبة لمدينة الدورق العربية في الأحواز)، والحُداء، والركباني وغيرها) وهذه مشتملة على الألحان والنغمات ومواضع “الونّة” والمدّ و”الترجيع” والبكاء وهي مدروسة بعناية بالغة لكي تحصد التأثير المنشود في نفس الجمهور، وقد بسط المعلّمون في شرحها وللقارئ أن يراجع المؤلفات التي صنّفت تحت “أطوار الشعر الشعبي” ومنها طور “النعي” وهو من أشهر الأطوار، ويعتبر الأساس لكلّ الأطوار.
يُقرأ بكيفيّتين: الأولى: المدّ والترجيع في الكلمات وخصوصاً في الكلمة الثانية والكلمة الأخيرة من كلّ شطر إلّا الشطر الرابع (القفلة) مع ترقيق الصوت.           الثانية: المدّ والترجيع في الكلمات وخصوصاً في الكلمة الثانية وما قبل الأخيرة من كلّ شطر مع تكرار الكلمة الأخيرة ووصلها بالشطر الذي يليها.
ومن يطّلع على مجالس النعيّ لا يعدم أن يشخّص الصلة الواضحة بينها وبين اللطميات، مع الاعتراف بأنّ الميزان أو الإيقاع المتحصّل من صوت اللطم الجماعي المنتظم (اللطم هنا هو ضرب الصدر أو الرأس، مع أنه في الأصل للوجه) هو ميزةٌ للطمية على مجلس النعي، يقابلها النثر الذي يمتاز به مجلس النعي على اللطمية، وما أشرنا له هنا يصلح للتفريق بين مهمة الرادود الذي يقود اللطمية، وبين مهمة الخطيب الذي يدير مجلس العزاء.
ومن الأصول التي تبدو جيناتها واضحة في فنون النعي، مجالس الذكر، أو الحلقات الصوفية، وقد يقول قائل أننا نظلم إذ ننسب العتيق للجديد، لكن الحقّ أن الصوفيّة قديمة جدّا، ولا تعدم أن تجد لها شكلا من الأشكال في كل عرف “ثقافة” أو معتقد، وهذا الأصل ليس بعيدا عن الأصل الذي سبقه، فالأساطير القديمة احتوت تراجيدياتٍ تراها حاضرة في التراجيديات الجديدة نسبيّا، ومن أقدمها أسطورة رأس مورفيوس الذي ظل يغنّي بعد أن فارق جسده، كحكاية استمرّت بعد أن مات أصحابها، والمورفية (نسبة لمورفيوس) من أقدم جدّات الصوفية، وكلّ ما جاء في هذه شجرة الصوفية فرعا وأصلا فهو تحت تهذيب النفس بالفنون والموسيقى والحكمة والبلوغ بها إلى مقام شريف، حيث تجتمع الفضائل، حتى تلك التي تحوي تناقضا ظاهريا بينها (كالشجاعة ورقة القلب).
تمام علي بركات