ثقافة

حين يتحول الأمل إلى ألم.. المتنبي نموذجاً

“لغز المتنبي” تحت هذا العنوان صدر كتيِّبٌ مرافق لعدد شهر أيلول من مجلة المعرفة السورية ويحمل الرقم (624) تأليف د. نزار بريك هنيدي, قال في مقدمة الكتيِّب ما يلي: (مازال المتنبي يبسط جناحيه في فضاء الشعر العربي, على الرغم من كل التحولات العميقة التي أصابت المجتمع العربي, والتغيرات الكبيرة التي لحقت بمفهوم الشعر وبنية القصيدة, وما زال يمثِّل الشاعر الأول الذي يفتتن به عامة الناس فيستحضروا أبياته الحكمية في المواقف المختلفة التي تعرض لهم في حياتهم اليومية, كما ينشغل به المختصون والباحثون). وحقاً ما قال الدكتور نزار, لأن المتنبي مازال حاضراً في ذاكرتنا وثقافتنا حضوراً مميزاً, كما أوافق الدكتور علي القيم رئيس تحرير المجلة حين كتب في تقديم الكتيب قائلاً: (أرى أن الانشغال بالمتنبي حالةً تستحق الاهتمام, لأن في شعره ما يجتاز الآفاق والأزمنة ويخترق المناسبات, ويجعل قارئه دائم التأهب للمفاجآت والتوليد, ولأن قصائده مازالت تفتن الأجيال بسحرها وروعتها النادرين).
لقد تناول المؤلف د. نزار بريك هنيدي الكثير من الجوانب الهامة في شخصية المتنبي في فصولٍ حملت عناوين: (أسطورة المتنبي– موقفه من الزمن–  الإنسان الكامل- عروبة المتنبي- الحكم والأمثال– ثقافة المتنبي الترويج الذاتي وصناعة المجد– ومختارات من شعر المتنبي).
لكنني في هذا المقال سأشير إلى جانبٍ غَفِل عنه د. هنيدي, وهو تحوُّل الأمل عند المتنبي إلى ألم, وكيف نغَّص الأمل حياةَ المتنبي وأصبح مصدراً لمعاناته وأحزانه وآلامه, فالأمل عادةً يحفزنا على السعادة والتفاؤل بمستقبلٍ جيد, وكلنا يذكر هذا البيتَ الشعري للطغرائي:
أعـــــــــــــلِّلُ النفـــــــــسَ بالآمالِ أرقبهـــــــــــا
ما أضيــــقَ العيشَ لولا فســحةُ الأملِ
لكن الأمل والطموح الذي وجَّه حياة المتنبي, وجعله يتقلَّب في البلاد غرباً وشرقاً, شمالاً وجنوباً علَّه يتمكن من تحقيق مأربه, حتى إن رحيله إلى مصر قاصداً كافور الإخشيدي, كان دافعه الرجاء بتحقيق حلمه على يديه, لكن خاب مسعاه وفشل حلمه, وعاد حانقاً مغتاظاً مما لقي في ديار كافور فقال:
ماذا لقيت من الدنيا وأعجبه
أني بما أنا شاكٍ منه محسودُ
ما كنتُ أحسبني أحيا إلى زمنٍ
يسيء بي فيه عبدٌ وهو محمودُ
كلنا يعلم اعتزاز المتنبي بنفسه, حيث تلعب الأنا دورا محوريا في شعره، بعض النقاد يرى أن مشكلة المتنبي تتمثَّلُ في الذات المتضخمة إلى درجة مرضية, وربما يكون هذا الأمر وراء عظمة أحلامه وآماله, وهو يرى في نفسه أهلاً لكل أمرٍ جليل, أليس هو القائل:
وتعظُمُ في عينِ الصغيرِ صغارُها        وتصغُرُ في عينِ العظيمِ العظائمُ
فهو الشاعر العصامي الذي بنى نفسه بجِدِّهِ واجتهادِه وثقافته ومعارفه, صعد إلى قمة المجد والشهرة من الطبقة الفقيرة, ولم يتكئ على حسبٍ أو نسبٍ, قال معبِّراً عن ذلك:
لا بقومي شرفتُ بل شرفُوا بي
وبنفسي فخرتُ لا بجُدُودي
أنا تِربُ الندى وربُ القوافي
وسمامُ العدا وغيظُ الحسود
لقد ظلت ثنائية الآمل والألم هي المحركَ الأساس في عملية الإبداع الشعري عند المتنبي. كان الألمُ في بداية حياته بسيطاً ما لبث أن وصل إلى حد المغالاة، بعد أن فشل في تحقيق آماله وأقرَّ بأنّ:
ما كلُّ ما يتمنّى المرءُ يدركه                   تجري الرياحُ بما لا تشتهي السفنُ
وهكذا وقع المتنبي في دائرة الألم واليأس الذي أودى به إلى اعتزال الناس والحياة والنأي بنفسه عنهم، بعد أن فشل في تحقيق آماله في المجتمع, حينها لجأ إلى عالمه الداخلي، من خلال بناء الآمال العظام، لكنها ليست الآمال المعتمدة على الناس أو المجتمع، إنما هو الأمل بنفسه وقدرته وموهبته الشعرية. قال الناقد أحمد سعيد بغدادي في كتابه (أمثال المتنبي وحياته بين الألم والأمل) الصادر عام 1932 في مصر:
(تأملت المتنبي من خلال شعره, فوجدت شاعراً كبيراً لازمه الحظُّ النكد, وبائساً فقيراً يحمل آمالاً يضيق بها الفضاء, فكلما حاول بهمته بلوغ قمة المجد, دفعه حظه عنها إلى أبعد حد, حتى أرغمته الأيام بعد ذلك على الرضا بالخيبة).
عماد الدين إبراهيم