ثقافةصحيفة البعث

نقدياً.. سمر الغوطاني تضيء على “أم أحمد لا تبيع مواويلها”

نجوى صليبه

تقول الأديبة والشاعرة سمر الغوطاني في مدخل دراستها وإضاءتها النّقدية لديوان “أم أحمد لا تبيع دواوينها” للشّاعر الفلسطيني صالح هواري: “حمل الأدباء الفلسطينيون القضية همّهم الأوحد في المنافي بكلّ ما يحمله وجدانهم من انتماء وانكسار وحزن، مختلطاً مع الرّغبة الكبيرة ببقاء الأمل في العودة والحرية واستنهاض الهمّ نحو نيل المشتهى مهما بلغت الأثمان.. لقد كتب الشعراء بمداد هذا الجرح وبلون صلصال وجودهم، فكان الخطاب الثّوري محمّلاً بالأمل، وكان خطاب الاغتراب والحزن والتّشتت، والحنين إلى ما مضى والشّوق إلى ما هو آتٍ”.

وتعلّل الغوطاني سبب اختيارها هذا الدّيوان بالقول: “كتب الشّاعر صالح هواري في حبّ فلسطين وقضيتها سبعة دواوين، لم يسلّط الضّوء ولو على جزء منها، وهي من عيون الشّعر الثّوري والشّعر السّياسي والوطني، وقد وقفت على أحدها وهو ديوان “أم أحمد لا تبيع مواويلها”، حيث عاصرت قصائده كلّ الأحداث الجسيمة التي حدثت ما بين عامي 1975 و1990، ووهبها الشّاعر من روحه الثّائرة وقلبه المتوقّد حبّاً وشوقاً ومن وجدانه الذي يضجّ بالصّدق والنّبل والعروبة، فكان الديوان أيقونة في شعر الثّورة والمقاومة وحبّ الوطن، وقد حمّل شاعرنا فيه نبل مقاصده وصدق مواقفه وإبائه الفلسطيني العربي الذي يرفض التّطبيع والسّلام المتخاذل”.

وتورد الغوطاني بعضاً من ملامح شعر صالح هواري فتقول: “امتزج لديه الحسّ الثّوري بالسّياسي وبالحسّ الوطني العميق”، ونختصر ملامح الخطاب الثّوري السّياسي التي ذكرتها باستنكار الظّلم واعتماد أسلوب التّهكّم والسّخرية من العدوّ، وتأكيد صدق وجدارة المقاومة الفلسطينية، وتوظيف الأمثال الشّعبية في شعره كدلالات تعبيرية يقصد من ورائها معاني جمّة، واعتماده التّكرار اللفظي والتّركيبي بقصد إبراز أهمية اللفظ واستخدامه الفعل المضارع لاستحضار الحدث، واعتماده البحور الشّعرية الحماسية سريعة الإيقاع، ممّا يناسب الدّفقة الثّورية المناسبة، مثل بحر الرّمل والمتقارب والبسيط، وابتكاره رمزه الخاصّ وفق ثقافته ورؤيته السّياسية والوطنية المناسبة لآرائه ورؤياه مثل “الطّاحونة” و”الوردة” و”سجادة” المطر” و”الخميرة”، لتختمها بالقول: “كلّ هذه المكوّنات الجمالية في التّعبير نجدها مجتمعة في كلّ قصيدة من قصائد الدّيوان، وأهمّ ما يميزها الزّخم العاطفي الكبير المحمّل بالحبّ للوطن والأرض وصدق الانتماء وجيش الثّورة القاطن في دمه، حيث يفيض حماسةً وينهال كالمطر”.

أمّا “أم أحمد” التي حمل الدّيوان اسمها، فهي كلّ امرأة فلسطينية متجذّرة في الأرض، تقدّم أبناءها واحداً تلو الآخر فداء لتراب الوطن، تقول الغوطاني: “وسمت أم أحمد الدّيوان بطابعها، وهي الأصالة والتّجذّر والأنثى الخصبة والتّجدد والثّبات، وأم أحمد رمز للمرأة الفلسطينية التي لم تبع أحلامها، وهي البنفسجة العاشقة كما وصفها شاعرنا”:

هل أتاكم حديث بنفسجة عاشقة

حاكموها بتهمة نقل الحجارة

للعاشقين الصّغار

وتعلّق: “اللون البنفسجي يرمز إلى الطّهارة الرّوحية والتّصوّف، فهذه امرأة حرّة مؤمنة تحبّ الوطن، وجريمتها الوحيدة نقل الحجارة “باللجن” إلى الأطفال الذين ثاروا على الصّهاينة وقاتلوهم بالحجر”:

أحيث ليس من سلاح سواه

أم أحمد لم تتعوّد النّوم

خارج أحلامها ليلةً واحدة

فلماذا إذاً حمّلوها جواز الرّحيل

أم أحمد تعوّدت أن تحلم في وطنها وليس خارجه، فلماذا يريدون لها الرّحيل عن أرضها والتّهجير:

ينسفون لها البيت عند الصّباح

فتبنيه عند الصّباح

يقصون أحلامها في الظّهيرة

تكبر أحلامها في الظّهيرة

هذا الطّباق المعنوي يدلّ على تحدّ وإصرار وشموخ ومقاومة، وأحمد يعود إلى الرّمي بعد أن اعتقله الجنود الصّهاينة، فتشدّه أمّه من يديه إلى صدرها، ليصير “نشيداً وزعتر” يعني شهيداً:

يعود إلى الرّمي أحمد

يخضر جرح التّراب المعطّر

تصيرين أرضاً له

ويصير نشيداً.. وزعتر.

وتبدأ الغوطاني دراستها بزخم لا يقلّ عن زخم القصائد، وتحديداً بقول هواري:

“إذاً: لو بقيت على هامش الطّريق

ولم تلتقطك أصابع طارق

وأم أحمد

وحميدة

هل كنت ستدخل

عرش القصيدة؟”

وتعلّق: “حميدة وطارق وأم أحمد أسماء فلسطينية أصيلة رمز بهم إلى المقاومة العربية الصّرفة، وعندما تكون للذّاكرة جمرة تحرقها في كلّ وقت، فلا بدّ لكلّ الجسد أن يصحو مستنفراً طاقته المقاومة، لأنّه الرّوح الكلية المشكلة للوطن وعلى كلّ جزء منه أن يحمل همّه، حتّى الأطفال الصّغار الذين نادهم بـ”العصافير”:

“يا عصافير غزّة

لا تذهبي اليوم إلى المدرسة

واحملي بدل المحفظة

صرّة من هموم البلاد”

ثمّ تقول: “ويلتمس العذر لنفسه لقلّة حيلته أمام هذه المأساة”، مستشهدةً بقوله:

فاعذريني

يدي عند باب يديك قصيرة

ونخلة عيني بصيرة

وهنا نستعيد قولها إنّ هواري يوظّف الأمثال الشّعبية كدلالات تعبيرية، وتذكّرنا قائلةً: “كما يقال في المثل الشّعبي “العين بصيرة واليد قصيرة” كناية عن قلّة الحيلة”، لتنتقل إلى الصّورة الشّعرية عند هواري، وتحديداً في قوله:

“ترى حمامة النّار من أين أتت بحجرين على منقارها؟

على سيف منقارها حجران:

على قمر يتنازل عن ضوئه للغزاة حجر

وعلى صاحب باعني في الظّلام حجر”

وتشرح: “هي صورة بارعة من شاعرنا، حيث إنّ هذا الغضب كحمامة من نار على منقارها تشكّل سببان من أسباب الثّورة، فالحجر الأوّل سببه أنّ القمر وهو الأمل والنّور لا يعرف سبيلاً للخلاص من عتمته، لذلك صار الحجر أولى منه لأنّه تنازل للغزاة عن نوره ورؤاه، والحجر الثّاني سببه خيانة الأصدقاء الذين يطعنون في الخفاء، ممّا يدفعه إلى النّضال والثّورة بمفرده”، مضيفةً: “يستخدم هواري أداة الخطاب للتّنبه وافتتاح الحديث، وذلك على نهج أسلوب الخطابة المتعارف عليه في الخطب القديمة “ألا” مرّتين في نهاية القصيدة للحضّ على الانتباه والتّحفيز والثّورة:

ألا فاخبزوا جرحكم جيداً يا شباب

بغير حجارتكم

لا يعقم جرح الوطن”.

وفي تقديمه للدّراسة، يقول النّاقد أحمد هلال: “تنكبت الأديبة والشاعرة سمر الغوطاني عوالم النّصوص الشّعرية ومستوياتها واتّصالها بالقضية الفلسطينية، تاريخاً وسياقاً ومواقف دالّة، والأكثر دلالة في بحثها هو التقاط المعادل الموضوعي والجمالي في البنى النّصية عبر قراءة تذوّقية ومعرفية في آن معاً، من خلال رؤيتها لبناء الجملة النّحوية بموازاة اللغة الشّعرية”.

ويضيف هلال: “جهد بحثي بذلته الغوطاني بتعدّد مقارباته وتخصيب الدّلالة فيه، نزوعاً إلى رؤية مكامن الجمال ولاسيّما المقارنات الشّعرية، التي تسم منجزه ومعها تفتح غير أفق للقارئ ليتقصّى الديناميات المترعة بجماليات الرّؤيا والمحايثة بواقعيتها والتقاط الجوهري منها”.

ونضيف على ذلك، هي دراسة لا تقلّ أهميّة عن الدّيوان ذاته، لما فيها من شرح وتعليل وتفصيل ودقّة وشمولية في الإضاءة على عناصر القصيدة كلّها، ولعلّ خير ما نختم به قولنا ها هنا هو رسالة أمّ أحمد إلينا التي تشرحها الغوطاني وتقول: “تبدأ بـ”أحباءنا” المضافة إلى ضمير المتكلم الدّال على الجماعة، والأحباء هم الأغلى في اقلب والأقرب، إذاً هو يقصد كلّ أرض:

أحبّاءنا في المنافي

وراء المنابر

خلف ضجيج الطّواحين

هذا الفضاء الموشى لكم

ولنا كل هذي الزّنازين

وتحت حرير المصابيح ناموا

ولا توقظوا حلمكم

طيروا فوقنا زقزات الحساسين

نحن اشتعلنا

ولا نطلب الآن

من أحد حجراً واحداً”.