“القصة الومضة” … هل أثبتت حضورها بين الأجناس الأدبية ؟
لا يمكن لأحد أن ينكر دور العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية،المؤثر في ظهور الأجناس الأدبية المختلفة عبر التاريخ ومع كل عصر من العصور قد يزدهر جنس أدبي ما ويخبو بريق آخر وفي عالمنا اليوم عالم الصراعات الكبرى والتناقضات على كافة المستويات، والتي تركت أثرها على الإنسان بالدرجة الأولى قد يبدو الحديث عن القصة الومضة ذا أهمية، أين موقعها اليوم من الأجناس الأدبية الأخرى؟ وهل تستطيع التعبير عن المجتمع بكل ما فيه من تناقضات؟ توجهنا بهذا السؤال للناقد أحمد هلال وللقاصة ديمة داوودي علّنا نلقي بعض الضوء على واقع هذا الجنس الأدبي.
قادرة على امتصاص الألم
البداية كانت مع القاصة ديمة داوودي فتؤكد أن القصة الومضة جنس أدبي مهم جداً لطالما تم تهميشه حتى من قبل المثقفين والكتّاب لانشغالاتهم بأجناس أدبية أخرى، إلا أن القصة الومضة رغم قصرها وكثافتها لا تقل شأناً عن بقية الأجناس الأدبية، وتتطلب مهارة خاصة للسيطرة عليها، فالقصة من هذا النوع من السهل جداً أن تنفلت من أصابعك، وأن تتخذ شكلاً آخر غير الذي بدأت به، كما تتطلب القدرة على المسح والحذف وإزالة جميع الزوائد مع المحافظة على متن القصة ومغزاها كي لا تتحول لجمل عادية أو غير ذات بيان، فكما يقول هارفي ستابرو: إن كثيراً من النصوص التي تُكتب باختزال واقتضاب ويُظن أنها قصة ومضة، لا يعد من قبيل قصة الومضة، وهذا ـ كما ترى داوودي ـ عائد للخصوصية الهائلة التي تتمتع بها نوعية هذه القصص، ومن الملفت للنظر أن غالبية الكتّاب اليوم لجؤوا لكتابة القصة الومضة بعد تجريبهم العديد من الأجناس الأدبية، تاركين الومضات إلى ختام التجريب وأغلبهم سيعود لكتابة القصص والقصص القصيرة جداً، فحال القصة الومضة هو الحال الشديد الامتلاء وليس المكتظ بين واحد، وهو السر فيها كما السر في ختامها الذي لابد أن يكون مفاجئاً وغير متوقع، وليس الأمر كما يظن البعض أنها نوع أسهل ومستسهل عن غيرها من الكتابات، فهي جنس أدبي منفرد بشروطه الخاصة وذائقته المتفردة، يعتمد على الإيحاء والتركيز والتكثيف والكثير من المفارقة، ويمكن للقصة الومضة أن تعبّر عن مجتمعنا الراهن بما فيه من ألم وحب وتعارضات إنسانية ترهب أي نص، فالقصة الومضة قادرة باختزالها على امتصاص هذا الألم، ويبدو أن قراء اليوم وبعد ما مروا به من أوجاع ومحاولة تعايش مع الأوضاع الراهنة، باتوا أكثر هرباً من النصوص الطويلة التي تغرق في تجسيد الوجع أو الفرح، فباتت القصة الومضة أكثر تعبيراً ومجازاً وأقرب إلى قلب المتلقي وعقله، لابد وإن كان ختامها خارج سياق التوقع.
غموض الهوية
وتعتبر داوودي أن القصة الومضة لم تستقر على تسميه واضحة لها، فمازال الكثير يسمونها بتسميات ومصطلحات عديدة على هذا النوع القصصي مثل: “القصة الجديدة، القصة الحديثة، القصة اللحظة ، القصة البرقية، القصة الذرية، القصة الومضة، القصة القصيرة القصيرة، القصة الشعرية، الأقصوصة القصيرة، اللوحة القصصية، مقطوعات قصيرة، بورتريهات، مقاطع قصصية، القصة الكبسولة، القصة المكثفة، مشاهد قصصية، فقرات قصصية، ملامح قصصية، خواطر قصصية، إيحاءات”، إلى أن استقرت التسمية على القصة القصيرة جداً، والقصة الومضة.. ورغم ما ذكرناه من اختلاف تسميات القصة الومضة إلا أنه من المستحيل إنكار هويتها، خاصة أنها بدأت تنتشر وتغزو الساحات الثقافية وتنال إعجاب المتلقي وتترك الأثر المراد في النفس.
تكثيف للحظة
أما الناقد هلال الذي قال: لعل القصة الومضة تحيلنا إلى إشكالية إجناسية بامتياز، بمعنى السعي لمحاولة استقرائها بالمعنى الإجناسي، وهذه الإشكالية هي معرفية بالدرجة الأولى، مع شيوع التنظيرات وضروب التقعيد لها وعلى غير مستوى وليس انتهاء بالمجال الصحفي بوصفه وسيلة لشيوعها فضلاً عن الفضاءات الافتراضية، وأعتقد أن ثمة أسباباً أخرى سنجدها في طبيعتها التركيبية بمعنى قصة/ وومضة، أي في ذلك التداخل الذي يحيل إلى السمات الفنية أكثر ما يحيل إلى القصة بمفهومها، والذي تواضع عليه النقاد والدارسون وحتى المبدعون أنفسهم، فهل هي الابنة الشرعية للقصة القصيرة جداً كما جاء في توصيفها؟ ولماذا استسهل كثيرون كتابتها دون الأخذ بعين الاعتبار تداخل الأجناس الأدبية وتراسلها، حتى لتبدو هذه القصة “الومضة” كنبت شيطاني مقطوع عن سياق ثقافي ومعرفي وتراكمي، بمعنى الخبرة الجمالية في الاقتصاد الأدبي واستثمار اللغة وتوظيفها في خدمة الفكرة أو المقولة.
وأضاف هلال: حقيقة الأمر أننا سنقف على كثير من نصوص تحت ذلك المسمى تنتمي لشغف الكلام فحسب، أكثر من الانتماء لما يثري الإبداع بتجلياته المختلفة، لكن ذلك لا يغلق القول بأن ثمة من المبدعين من كتبوا في هذا النوع من الجنس – إن صحت التسمية- وهم أكثر وعياً بخلق حوافزها التأليفية والواقعية والجمالية، وهذا ما ينجز أدبيتها. أي أن تكتب بوعي كتابها الناجز، وبأنهم يأتون إلى تقنياتها ليثروا قيم الشكل والمضمون والمقولة، أي قيم الاختلاف والمغايرة الواعية، لا المحاكاة المجانية التي لا تثري الإبداع وتقدم الجديد أو المحايث ولكن بأسلوبية مختلفة وفرادة مميزة، فهل يعني التقعيد لها مجدداً هو حل إشكالية استقرارها لتنضاف إلى المشهد الثقافي والأدبي؟ أرى، أن تهافت التقعيد لها جعل كتّابها في حيز الاطمئنان لما يكتبونه، ولاسيما أنه بالقراءة الفاحصة سنجد ضروباً من المحاكاة غير الواعية، وشذرات الحكم غير المضبوطة بمقولة جمالية وفكرية، أو جملة من “النكات” السريعة وكي لا تتحول إلى “شباك تذاكر” لابد لها من صيرورة تكتمل بذات المبدعة الواعية لقيم النص، وبوصفها ترجمة للحظة شديدة الكثافة والتوهج، وهذا ما يتطلب ثقافة مؤسسة بمرجعيات معرفية، لعلنا نجد في القليل ممن مارسوها وكتبوها بإبداع لافت الدليل على ذلك، وبوصفها مجدداً نوعاً من المغامرة السردية المكثفة حتى ليشي تراكمها سعة في حركة القص والسرد، إذ لا يمكن في ضوء نتائجها المحتملة وانفتاح أجناس الكتابة في عصر يوسم بالتغير والسرعة والكثافة الاعتقاد بأنها نافلة وترف في الكتابة، بل ثمة مسؤولية لكتّابها كي يضيفوا للإبداع وحقائقه الكبيرة، وذلك كما يؤكد هلال لا يعفي أبداً من مساءلة هذا النوع في الجنس الكتابي ما هي حدوده الواضحة ومنظوماته الجمالية المتجددة، إن لم يكن ثمة رؤية ومنهج للكتابة بشكل عام، وأن التعليل لمعاييرها الأقرب إلى الصحة لن ينغلق عند بلاغتها التصويرية وقدرتها على المفارقة والإدهاش، بقدر ما يعاضد في نظرية الإبداع قبضاً على لحظتها الإبداعية والجمالية لدى كتّابها المثقفون.
إن ما قدمه الناقد هلال والقاصة داوودي يؤكد لنا أن القصة الومضة جنس أدبي مهم يحاول أن يشق طريقه ويرسم ملامحه من خلال التجارب الإبداعية المهمة، التي خاضت في مضماره رغم وعورة الدرب التي تؤكد أن أمام مبدعي “الومضة” مهمة ليست بالسهلة، ومن يدري ربما في يوم ليس ببعيد، قد تصبح الومضة في القمة لتعبّر بصدق عن عصر أنهكته التكنولوجيا، ولم يعد للبعد الإنساني فيه مكان.
جلال نديم صالح