ثقافة

طلال حيدر وإياد قحوش في “مملكة الشتي”

مع غياب الشاعرين الكبيرين سعيد عقل، وجوزف حرب في العامين الماضيين، بدا مشهد شعر اللغة المحكيّة في لبنان، وكأنه يودع الشعراء المؤسسين دون بروز وجوه جديدة قادرة على حمل الرسالة الكبيرة.
ولكن أبى الشاعر الكبير طلال حيدر إلا أن يبشّرنا، وهو على عتبة الثمانين من العمر، بشاعر من سورية قادم من”جبل السايح” بكل عنفوان الكلمة السيف، ليلقي على كتفيه حمل مستقبل الشعر المحكي وميراثه الغني والمتنوع والأصيل.
إنه الدكتور “إياد قحوش” ابن مرمريتا، البلدة دائمة العطاء، والتي رفدت المسيرة الثقافية السورية بأسماء كبيرة في شتى مجالات الفن والأدب والفكر، حيث ورد في المقدمة التي خطها “طلال” مفتتحاً بها “مملكة الشتي”: كلما ولد شاعر باللغة المحكية، تصبح الدنيا أحلى، وسكنى الأرض أجمل، وأطمئن أنا”، ليذهب بعدها صاحب “أحلى من الركوة” إلى المقاربة بين شعرية المحكية وشعرية الفصحى، معتبراً أن الشاعر “إياد” في قصيدته المحكية لا يهدم نظاماً شعرياً بفوضوية المخرّب للموروث، بل يعمر نظاماً جديداً هو أساس لفصحى الأيام الآتية، قبل أن يختم مقدمته في سؤاله للشاعر: هل تكمل الطريق يا إياد؟!.

في قراءة متأنية لمقدمة كتاب “مملكة الشتي” للدكتور “قحوش” التي كتبها الشاعر الكبير “طلال حيدر”، يشعر القارئ بفرح “طلال حيدر” الحقيقي وهو يتحدث عن تجربة “إياد قحوش”، فالشاعر الفذ لا يسعده شيء في الدنيا بمقدار ما يسعده اكتشاف شاعر فذ يرى فيه كل صفات الشاعر الفارس الذي يلتزم بقضايا الإنسان، ويأبى إلا أن يسخّر كلمته للحق الذي لا يموت، وللجمال الذي لا يشيخ.
“مملكة الشتي” هي ملكوت شعر عابق برائحة البساتين، ومتى دخلت إليها لن تخرج قبل أن تملأ السلال بفواكه الروح وورود العقل.
تشمّ وأنت تقرأ في الكتاب رائحة كروم الشام، وتسمع وشوشات كهنة الكلمة، وتحسب وكأنك في رحلة تأخذك بين المجرات، فترى ما لا يخطر ببال، وتسمع ما لم تسمعه أذن من قبل.
تشعر وأنت بين دفتي الكتاب أنك طوراً فراشة، أو عصفور، وطوراً نغمة وتر، أو ضحكة طفل، فتختال بين الأسطر كفرس لا يتعب، وترقص بك الأسطر كأنك مركب في نهر المساء.
الشعر في الكتاب مليء بالغرابة، وغني بالهدايا والمفاجآت، تقرؤه فتجد نفسك، وتغوص فيه فترى مرآة ذاتك، وتسكن في بيوته، وتشعر وكأنك قد عشت هناك عمراً، فتبحث في الأشياء ليس فقط عن ذكرياتك، بل عن أحلامك أيضاً.
هو هذا النوع من الكتب الذي يختزل كل الألوان في قوس قدحه، ويحمل رسالة الماء، وشفافية الغيوم، وعمق السماء.
“مملكة الشتي” قد يكون من أهم الكتب التي نشرت في الشعر المحكي على الإطلاق، وما بعده ليس كما قبله، إذ يجدر الآن بالنقاد أخذ الشعر المحكي على محمل الجد، واعتباره أدباً من بين الآداب التي تُدرس وتدرّس.
وما كل الهرطقات التي تناولت الشعر المحكي واعتبرته ليس جنساً أدبياً، إلا ترجيع لصدى أفكار رجعية تستند في ظاهرها النقدي على باطن وأساس رجعي، وتلطفاً فقط وصفناها بالأفكار الرجعية، وربما من باب توسيع الرؤية، أورد ما قاله الشاعر”قحوش” في واحد من الحوارات التي أجراها بعد أن بلغت قصيدته مسامح برج الجوزاء، عن رأيه في الفرق بين شعرية المحكية والفصحى:”للغه المحكيّة بتعربش معنا عالسجر وبتطلع عالجبال وبتسهر معنا بالشتوية ومنشوفها مع الولاد عالبيادر ومع الفرحانين بالأعراس ومع المحزونين بالمقبره أنا كل أحلامي باللغه المحكيّه اللغه الفصحى بتعرّم عالورق”.
بالعودة إلى “مملكة الشتي” العنوان الذي اختاره الشاعر ليكون الصورة التي ستحمل القارئ إلى مناخات الكتاب ومزاجه المائل إلى الحنين والألفة، يصعب علي اختيار قصيدة واحدة لتكون مثلاً عن نوعية قصائد الكتاب، وذلك لتنوع القصائد والمواضيع ولانعدام التشابه بين مكونات الكتاب، فالقصيدة لا تمثل إلا نفسها، والأمر الوحيد الذي يجمع قصائد “مملكة الشتي” هو التنقّل من دهشة إلى أخرى، لكني أورد القصيدة التالية لما فيها من رشاقة وخفة وسبك شعري كأنه غزل بخيوط الذهب:
لبستي غيوم الصيف
أوعى تعجلي بالليل
بتطيري
..
ولا تقطّفي نجوم السما
السلة لْ مَعِك
مَ بتُوسَع زْغيري
..
كل ما طْلعتي ع جبل
بيطق وادي من الجبل غِيري
..
وكل ما فْتَحْتي بالعتِم
طاقة قمر
عم تنْفتَح سِيري
..
خلقتي إله من الحلا
بس تكْبري
شو بدّك تصيري؟
ما أحوجنا في هذا الزمان البشع لجرعة حقيقية من الجمال الصافي والناصع لتسكر الروح بعصير عناقيد الإبداع والخلق، ولنحسّ أننا مازلنا أحياء نشعر بنكهة الحياة ونحمل إرث حضارة قد تخبو زمناً لكنها لا تفنى.
“مملكة الشتي” -الصادر بطبعته الأولى 2015، عن مؤسسة أرواد للطباعة والنشر والتوزيع في طرطوس، بصورة غلاف بعدسة جورج حنا أبو اسبر- هي مملكة ربيع الأمل بالفرح وبالسلام رغم اليباس الذي يحيط بنا.
تمام علي بركات