“أغنيات لوردة الضوء” لا تشفي “آلام قمر القرية” المنكسر..

وقفَ أول السطر يصرخ: “أنا المعرّي رهين المحابس” ـــ كتابه ـــ تركوني مثل “الغريب والقريب” ـــ كتابه ـــ أريد “الحقيقة يا بغداد” ـــ كتابه ـــ “تراتيل” ــــ كتابه ـــ “حارس المطخ” ـــ كتابه ــ لا تشفي “آلام قمر القرية” ـــ كتابه ـــ كل ما ابتغي “نسمة عطر” ـــ كتابه ــــ أفتح بها مزاد الكلام..
شمعةٌ واحدة تنير فراغ المكان، ويدٌ حالمة تربت على ضجر السرير بحنو رهيف، صدر يعلو ويهبط يلامس الخواء، زفرات حرّى مشحونة بالآهات، تعانق وسادة الغياب، عند ناصية التمني قدحان من نبيذ الحلم، يترقّبان، يهجسان، ينتظران انفصام بوابة الزمن، أن ينكسر الغياب لتعود لسرير اليتم حمى الحياة.
“أغنيات لوردة الضوء، بوح الوجع” مجموعة شعرية بتوقيع الأديب المسرحي: سمير عدنان المطرود، صادرة عن دار الجندي للطباعة والنشر والتوزيع القاهرة/ مصر..
منذ العتبة الأولى الحامل “أغنيات لوردة الضوء، بوح الوجع” باعتبارها البؤرة الحاضنة لمرجعيات ودلالات المحتوى، يسلّم الشاعر مفاتيح منجزه لقارئه، وتلك مغامرة ذات وجهين: الأول استشفافي، وهو انتباه القارئ الملول على أن المنجز ليس إلا رسالة لوردة ضوئه، وهنا أنفي ما تقدم قطعياً لأقول إن المطرود فقد سيطرته على تلابيب وجعه، وجلّ ما استطاع إليه سبيلاً، هو أن يقذف بمعطاه طي دوح متلقيه ليهنأ هو بفسحة ضوء..
في محراب وجعه، توهجت الكلمات سنا وسناء، جاءها طائعاً فأتته بعد مراودة بدفين الوله، وهو المستباح الذي لم يوفّر لها دمه ليزداد أوارها في روحه..
“الروح التي ليس شعارها الحب الحقيقي، من الخير ألاّ توجد، فليس وجودها سوى عار” يقول جلال الدين الرومي..
ولأن الشعر حسب القائل هو: تأسيس لوجود، بحث في الكائن وكشف للإمكان، أسئلته هي نفسها أسئلة الوجود؛ ولأنه لا شعر بدون أسئلة، ولا أسئلة بدون وعي، فإن كل حالة شعرية هي بالضرورة حالة من حالات وعي الذات بماهية وجودها.
فإن المطرود افتعل أسئلته المباحة في نزوع مبطن بشبهة الضوء لمن نزحوا متلحفين سديم الغياب، يلوذ نحو الغوايات المشتغلة بحساسية الاحتواء.
قائلاً: فاليوم بضحكة وقُبلتين/ اشتريت/ غيمةً مليئةً/ بقطر المطرْ/ وغداً/ وعدني الضوء/ يبيعني/ بضحكةٍ وقُبلةٍ واحدةٍ/ غيمتين!/.
ولأنه اجترع من الضوء براقاً يعرج به نحو فلواته القصيّةِ الوجع، جاءت معنونات القصائد تكريماً لهالة الفقد التي أسكنته ظلمة الفراق،  حروف ترقص على الضوء، في معبد الضوء، سُكْرُ الضوء، لن أذهب دونك؛ يا ضوئي، شطآن الضوء، سفينة وردة الضوء، وأخريات، متخففاً من حزنه يتوصل العباءة الصوفية: في زفةٍ/ حين الغبارُ يتيهُ/ من رقصةٍ بالذّكْرِ/ تعانق معبدي”.
وفي مقام آخر يقول: وجدت ضوءاً ناعساً/ وكل الحروف عليه، تطوفْ!”.
الشاعر المطرود هو ابن لعبة الضوء والحواريات ــــ المسرح ـــ لم يستطع هنا الخروج من جلباب أبيه: في لحظة التوثّب/ تتعارك الحروف؛ وتتسابق.
أيّها يدخل في فتحة فم الضوء أولاً/ فكرتك أم حلمي”.
ليدخل في ماهيّة الحوار: قالت له: لمَ أنت حزين/ انظر إلى المرآة؟.
قال لها: ثمة معاهدة أزلية مع الحزن/ فحين أنظر إلى المرآة/ لا أرى سواك/ فَمَنْ الحزين إذن/ أنا/ أم المرآة/ أم أنت”؟.
وفي لحظة تجلّ طافحة بتراجيدية موسومة بالمرارة والوجع، يفتح باب الحكائية: “يقول البحار الحزين/ لبستاني/ يزرع موجاً من الذكريات/ هكذا يكون الحب/ جريمة”.
وعلى الرغم من أن الشاعر يمتلك طاقة شعرية تتفتق دفقاً متفاوتاً ما بين نص وآخر، ظل أسير الطريق الذي سلكه من المطالع، ليشي لقارئه العليم أن العناوين بين نص وآخر ليست إلا للافتعال، بحيث أتت كعلامات توقف لمبدعها، وللقارئ كمحطات استراحة، وهذا يفضي إلى أنها نص واحد كتب على جرعات، بثه المطرود كل مضمرات أناه لينتهي: “قولوا لها/ كل النساء؛ بعدك”.
يطوي ضفتي الورق مسلماً بخواتيم المقال: “قال لها: أحبك/ فقال: آه منك يا وجعي/ في نهاية البداية/ وانتهى الموضوع”.
النمسا ــــ طلال مرتضى