فـسـحة للـحب والـفن فـي زمـن الـحـرب والـدمــار
حتى في زمن الحرب يبقى للحب مكان، هكذا عوّدتنا الشعوب التي تخلق من اليأس إرادة ومن القبح جمالاً.. بالتأكيد كانت الثقافة السورية أحد الجوانب التي استهدفتها الحرب وحاولت نسفها تمهيداً لزرع فكر بديل، إلّا أن المثقف السوري الملتزم كان واعياً لدوره في المواجهة، فكانت الملتقيات الثقافية التي ولدت من رحم الأزمة لتواجه الحرب والدمار بالفن والإبداع، وربما خصوصية تلك الملتقيات أتت من كونها كانت بعيدة عن إطار المؤسسات الرسمية وتوجهاتها، مما منحها حميمية أكثر وقدرة على الخروج عن الإطار التقليدي، لأنها جاءت بمبادرات من كتّاب وشعراء أرادوا للحركة الثقافية أن تستمر، وبالتأكيد تباينت تلك الملتقيات من حيث الدور والأهمية. من هنا كان لنا هذه الوقفة حول أهميتها ودورها في خلق خطاب ثقافي مغاير ومختلف، وهل نجحت في ذلك؟.
بداية توقفنا مع الشاعر والمخرج التلفزيوني علي العقباني والمشرف في ملتقى أضواء المدينة الثقافي، والذي أفادنا بقوله:
إذا كان المقصود بالخطاب الثقافي خلق حالة ثقافية معينة في الشارع السوري أفرزتها ظهور العديد من الملتقيات الثقافية في دمشق ومحيطها، فإن الأمر سيكون من الصعوبة تحديده بدقة، ذلك أن تلك الملتقيات بحضورها الثقافي المدني والأهلي عامة كانت تركّز على نواح معينة من الثقافة، وهو الشعر والموسيقا وحفلات توقيع الكتب، وفي ما ندر عروض سينمائية، وفي العموم تلك الظاهرة التي تكرست في السنوات الأخيرة ولاقت حضوراً واهتماماً ومتابعةً عند الكثير من المثقفين السوريين من شعراء وكتّاب وفنانين، حاولت إلى حد كبير مجابهة حالة الحرب والخراب والموت بالفن والشعر والأدب وحب الحياة والتمسك بالمكان والوطن بطيفه الواسع.
وعن ملتقى أضواء المدينة الذي يديره العقباني مع ثلة من الأصدقاء الشعراء والكتّاب في دمشق القديمة، تحدّث: حاولنا من خلاله استقطاب أصوات جديدة في الشعر السوري وتعريف الحضور بها من خلال إلقائها لقصائدها على منبره، كما حاولنا إضاءة جوانب عديدة من الشعر السوري والعربي والعالمي من خلال مختارات يتم إلقاؤها في كل لقاء، كما كان للموسيقا الشابة حضور هام فيها.
خطاب يُواجه الخراب الثقافي
بالمجمل يؤكد العقباني أن تلك الملتقيات الخارجة عن إطار الوصاية الثقافية الرسمية أو أي جهة أخرى، تُحاول بجهود القائمين عليها توصيل رسالة ثقافية ومجتمعية تُعنى بمفاهيم جديدة للإلقاء والتلقي بعيداً عن المنابر الكلاسيكية، واستقطاب طاقات شابة جديدة في الوسط الثقافي السوري اليوم، ومع الوقت واتساع رقعة تلك الحالة يمكن أن تشكّل خطاباً أو حالة جديدة تتم من خلالها مواجهة الخراب الثقافي والفكري والأدبي الذي تفرزه ظاهرة الحرب والدمار والموت، وتُساهم أيضاً في إرساء الحب والحياة والحوار من خلال الشعر والأدب والفنون عامة.
لم نحمّل الملتقى فوق طاقته
وللشاعر والمسرحي أحمد كنعان تجربته أيضاً من خلال ملتقى “يا مال الشام” ومن خلال ذلك يؤكد بأن هذا الملتقى من أول الملتقيات التي انطلقت أثناء الأزمة، وهو مواظب على موعده الأسبوعي ولم ينقطع رغم الصعوبات الكبيرة، وقد وقف على منبره كبار شعراء سورية، وقدم إلى جانبهم عدد كبير من الأصوات الشعرية الجديدة، ويتابع كنعان قائلاً: كان المهرجان السنوي ـ الذي أنجزنا دورته الثالثة منذ أيام ـ وجائزة يا مال الشام ـ التي سنطلق دورتها الثانية قريباً ـ نتيجتين طبيعيتين لهذا الاستمرار، وغطت نشاط هذا الملتقى الكثير من وسائل الإعلام المحلية والعربية والعالمية. أما عن سبب استمراره وتوقف بعض الملتقيات الأخرى فالسبب يكمن في أننا لم نحمّل الملتقى فوق طاقته ولم ندّعِ ما لا قدرة لنا عليه.
كمن يبحث عن الألماس
مهمتنا -والكلام لكنعان- تنتهي بتهيئة الفرصة المثالية ليقف الشاعر على المنبر وهنا تبدأ مهمة الناقد، ونحن لم ننصب أنفسنا بدلاء أو أوصياء على الجمهور، وكما نفرح بالشعر الجميل، نحن مستعدون للاستماع للشعر الرديء هذا شرطنا المعلن، نحن كمن يبحث عن الألماس عليه أن يغربل كميات هائلة من التراب، والجمهور هو من يغربل. كما أننا لم نأخذ على عاتقنا تلقين الجمهور وتعليمه، فملتقى “يا مال الشام” هو سهرة غير متجهمة نغني فيه ونستمع للشعر والموسيقى وليس مدرسة. لا يمكن أن نهين جمهور ملتقانا بمحاولة تعليمه بالطرق الفجة التي لاحظناها في الملتقيات الأخرى، والتي لا تعبر إلا عن تضخم “الأنا” المثير للشفقة، ونفترض أن عبارات “شعر جميل أو رائع أو سيىء” هي أحكام نسبية بدرجة كبيرة خصوصاً عندما تصدر هذه الأحكام عن شعراء، الناقد المتخصص لا يصدر أحكاماً ولا يتحدث في نقده عن ذاته.
لكن ورغم أهميتها لا يعتقد كنعان أن الملتقيات ساهمت في خلق خطاب ثقافي مغاير ومختلف، بل ربما ساهمت في تحريك الأجواء وإثارة غبار الأسئلة، وفي تذكير العالم بوجه دمشق الجميل، وتذكير العالم بالإنسان السوري المبدع الذي يتعرض لتشويه سمعة ممنهج. ونحن في ملتقانا نحلم بأن نعيد للكلمة مكانتها المرموقة في المجتمع السوري، ونأمل أننا نلقي الضوء على مواطن الجمال في زمن القسوة والبشاعة التي هاجمتنا، ويكفينا أن جريدة مموّلة بالمال القطري القذر ويديرها المنافق الكبير عزمي بشارة قد حاولت النيل من نجاح “يا مال الشام” وهذا دليل أكيد أننا في الطريق الصحيح.
إنبات بذار الكلمة والفن
وقد كان للشاعرة رشا الصالح مشاركاتها في تلك الملتقيات، وقد عبّرت عن رأيها بجرأة وشفافية، حيث رأت أن المنابر الثقافية الأهلية التي ظهرت في فترة الأزمة التي تمر بها البلاد والتي حاولت محو الإرث الثقافي والحضاري للإنسان السوري خاصة والعربي العامة، وذلك بقطع أواصل تواصله مع أوجه الثقافة كافة، أتت هذه المنابر والملتقيات كجسور تواصل لإعادة إزهار بذار الكلمة والفن، وإعادة تماشيها مع استمرارية الحياة، لتقول إننا أحياء رغم كل هذه النيران وجحيم الحرب المستعرة.
وتزداد أهمية تلك الملتقيات، كما تؤكد الصالح، أنها تزامنت مع الوقت الذي قلّت فيه النشاطات في المنابر الرسمية التي كانت مبوبة ضمن أفق وشروط محددة لأي مثقف يريد عرض ما لديه، هذا الجانب الذي تلافته الملتقيات بألوانها وأشكالها ومسمياتها، فهي استطاعت حتى الآن أن تجذب بعض الشعراء الكبار إليها، إضافة إلى اكتشاف مواهب جديدة تستحق الاحترام وأخذ إبداعها بعين الاعتبار.
“خلطت الحابل بالنابل”
ولا تخف الصالح رأيها عن التخبطات التي وقعت فيها هذه الملتقيات، إذ تقول: بالمقابل أطلقت تلك الملتقيات على كل من شارك فيها لقب شاعر أو فنان، وهذا التقييم كان من وجهة نظر القائم على الملتقى، وبذلك نرى هذه الملتقيات قد خلطت “الحابل بالنابل” وغرقت في الشخصنة، ولم تستطع برأيي أن تصل للمطلوب منها في إيصال كلمة المثقف وبجدية، ورعايته واحتضانه أيضاً على الرغم من وجود جوائز في بعضها، ومن سلبياتها تفشي ظاهرة الشللية الظاهرة التي كانت تقوم على تجميع وترويج لأسماء على حساب أسماء لشعراء ومثقفين، كذلك لم تكن حيادية في إطلاق نتائج مسابقاتها، إضافة لكينونتها اللارسمية أحياناً، التي أدت لحالة من الابتذال في التعاطي مع ما يقدم فيها على وجه التسلية وتمرير الوقت من قبل البعض، لكنها بذات الوقت كانت فرصة لإيصال رسالة وكلمة في مكان ما.
صوت جميل انطلقت همساته
وعن أسباب توقف بعضها رأت الصالح بأن هذا يعود إلى الجانب المادي لكون أغلبيتها تمويلاً شخصياً، والخلافات القائمة بين طبقة المثقفين المتناحرين فيما بينهم، وعدم التنظيم بين أوقات الملتقيات، فكانت حرباً من نوع ثان، يكاد المتابع لهذه الملتقيات أن يعجز عن أن يختار مكانين في الوقت ذاته لحضور ما يريده، لكنها تبقى بكل السلبيات التي تعانيها صوتاً جميلاً انطلقت همساته لتقول: إن دمشق حية، وأهليها شعراء ومبدعون وقادرون بها وبإبداعهم، أياً كانت الوسيلة على خلودها وتخليدها حياة، وشعراً، وجمالاً.
الصوت الواحد لا ينتج لحناً
ورأينا أن يكون مسك الختام في موضوعنا هذا مع الدكتور نضال الصالح كرئيس لمنظمة رسمية وأهلية بآن معاً، وكأديب وناقد، له رأيه الهام في هذا الموضوع، خاصة أن له تجربة مهمة في مجال الملتقيات، حيث تسلّم في فترة الثمانينيات مديراً لملتقى جامعة حلب الأدبي، وفي هذا الإطار يقول الصالح: أنا أؤمن من خلال تجربتي في الحياة الثقافية أن الصوت الواحد لا يمكن أن ينتج لحناً، فلابد من تعدد الأصوات، لذلك أؤمن بأن على الخطاب الثقافي المؤسساتي أن يمكّن الخطاب الثقافي الأهلي من الحضور، وأن يتشاركا الفعل الثقافي، ويكتمل أحدهما بالآخر، فلا المؤسسة الرسمية تستطيع أن تصنع ثقافة وحدها، كما لا يمكن للمجتمع الأهلي أن يصنع ثقافة وحده، لابد أن يتكامل الدوران معاً، لذلك أدعو إلى أن تكون ثمة ملتقيات أدبية ثقافية فاعلة في الحراك الثقافي السوري، وأن يكون لها دورها الذي لا يقل أهمية وقيمة ومكانة عن الدور الذي تؤديه المؤسسات الثقافية الرسمية، من هنا أجد نفسي منذ اليوم الذي تشرفت فيه بمهمتي معاوناً لوزير الثقافة، بأنه كان أحد المشروعات التي حملتها إلى الوزارة، ولم يتح لي أن أترجمها إلى حقيقة، هو أن تتكامل وزارة الثقافة مع المؤسسات الثقافية الأهلية.
ليلى السورية الواحدة
ويضيف الصالح: بالنسبة لنا في اتحاد الكتّاب العرب الأمر يختلف، فنحن منظمة وطنية تجمع بين الجانبين، أي بين كوننا مؤسسة رسمية ومؤسسة أهلية، لأن ثمة جانباً نقابياً في عملنا في اتحاد الكتّاب العرب، ولذلك أعتقد أننا نكتمل بأنفسنا، لكن هذا الاكتمال بأنفسنا لا يعني عدم انفتاحنا على المؤسسات الثقافية الأهلية، بل إنني أدعو ودعوت منذ اليوم الأول لتسلّم مهمتي في رئاسة الاتحاد إلى ضرورة المشاركة مع المؤسسات الثقافية الأهلية، في فعل ثقافي وطني نستطيع أن نتشارك من خلاله في تحصين الوعي السوري ضد قيم التكفير والتجهيل والظلامية، ولذلك دعوت أيضاً إلى أن يكون أحد المشروعات التي سنعمل على إنجازها في هذه الدورة هو البحث عن مشتركات بيننا وبين المجتمع الأهلي المعني بالثقافة إنتاجاً وتثميراً.
ولا يخفي الصالح أن التكامل بين الجانبين الرسمي والأهلي لايزال غائباً اليوم، ولابد من البحث عن آليات تقرب المسافة بين الرسمي والأهلي، وإن لم نفعل ذلك فهذا يعني أن كلاً منا يغني على ليلاه، بل إن كلاً منا يصدح بصوت يخصه وحده بدلاً من أن يكون لنا ليلى السورية الواحدة، وهذا ما أبحث عنه، وأطمح إلى تحقيقه في هذه الدورة.
كلمة أخيرة
هناك تجارب أخرى في هذا المجال لم نتحدث عنها ربما تكون قد حققت دوراً مهماً في هذا الإطار، وربما بعضها لم تتح له الفرصة لسبب أو لآخر ليثبت حضوره كما أراد القائمون عليه، وربما بعضها لم يكن بحجم التحدي الذي واجهه، لكن هذا لا يقلل من أهمية تلك الملتقيات عموماً، حيث تبقى للجانب الثقافي أهميته وخصوصيته، ويبقى أهل الثقافة والإبداع الأقدر على تقييم الواقع الثقافي واحتياجاته، لأنهم الأكثر التصاقاً بالشارع الثقافي عموماً، والأكثر قرباً من هموم المثقف من المسؤول الثقافي المؤطر داخل مؤسسة رسمية، ولكن بالتأكيد هذا لا يعفي المؤسسات الرسمية من دورها، ولا يعني أن تقف موقف المتفرج على نجاح تجربة أو فشلها، بل أن تؤدي دورها في دعم تلك الملتقيات، مع المحافظة على استقلاليتها بالطبع، لتبقى مشاريع تعبّر عن إبداع من بدؤوا بها، ومن رفدوها بمشاركاتهم لتكون دماً جديداً يضخ في جسد الثقافة التي تحاول الحرب أن تفتك به.
جلال نديم صالح