ثقافة

السينما وعلاقة التطرف بالنص المقدّس

كثيرة هي الأفلام السينمائية الهوليودية التي استقت قصتها وأحداثها الدرامية من الكتاب المقدس “الإنجيل” –العهد الجديد تحديداً- لتقدّم من خلال مجموعة من الأحداث الاجتماعية، العديد من القيم الأخلاقية التي يقرها الكتاب ويعتبرها أساس التعامل بين الناس، والعواقب الاجتماعية الوخيمة التي تحدث عندما يقوم أحد ما بتأويل تلك النصوص بأحكامها الرادعة حسب هواه الشخصي ومزاجه الجرمي، منها على سبيل المثال لا الحصر فيلم “الخطايا السبعة”، إلّا أن مخرجاً عبقرياً “ستانلي كوبريك”ستثير اهتمامه رواية كان قد أهملها فترة من الزمن وهي “برتقالة آلية” للكاتب “أنتوني برجس” ليقرر بعد أن أنهى قراءتها، أنها تستحق أن تكون فيلماً سينمائياً، نظراً لما وجده “كوبريك” فيها من كونها رواية فذة ومدهشة، ذات خيال خصب وإبداع سردي ساحر.
في فيلم “برتقالة آلية” (1971) يعمل أليكس (مالكولم ماكدويل)، بعد أن حُكم عليه بالسجن 14 عاماً إثر تسببه بمقتل امرأة، مساعداً لقسيس السجن، وتُتاح له فرصة قراءة الكتاب المقدَّس وبعكس ما هو متوقع من شابٍ مهووسٍ بالعنف والجنس، ومُنفلت من أي قيد أخلاقي وقيمي، يتأثر أليكس بالكتاب! لكن حين نعرف بماذا تأثَّر تحديداً، وما الذي أحبَّه هذا الشاب -التوَّاقُ إلى العنف والدم- في الكتاب المقدَّس، يُعرَفُ السبب ويَذهبُ العجب.
أثناء قراءته للكتاب المقدَّس تجتاح أليكس موجة من الخيالات، يستلهمُهَا مما يقرؤه من قصص في العهد القديم، لكن عوضاً عن تخيُّل نفسه مكان يسوع وهو على الصليب، يتقمَّص في أحد خيالاته شخصية جندي روماني يجلد يسوعاً، وبدلاً من التأثر بـإنسانية المسيح، ودعوته للخير والمحبة والتسامح، يتصوَّر نفسه جندياً في إحدى معارك العهد القديم، يجّز الأعناق، ويشق البطون، ويتلذذ بجمالية الدم، وبعكس يسوع الذي قال: “إن كل من ينظر إلى امرأَةٍ بقصد أن يشتهيها، فقد زنى بها في قلبه” يسرح أليكس بعيداً في خياله الجنسي، يرى نفسه محاطاً بنساءٍ عاريات، إحداهن تطعمه العنب -في مشهد تخيُّلي تُذكِّر تفاصيله بالجنة- بالتزامن مع موسيقا شهرزاد لـنيكولاي كورساكوف في خلفية المشهد المتخيَّل.
وفي رفضٍ واضحٍ للوعظ الأخلاقي الديني، ولنهج يسوع في نبذ السيف وذم الحرب، يقول أليكس: لم يستهوني الجزء الأخير من الكتاب (يقصد العهد الجديد) الذي تطغى فيه المواعظ على المعارك والمُضاجعات، لكنه في المقابل يُعلن انبهاره بالعهد القديم ليقول: أحببتُ الأجزاء التي تحكي قصص اليهود وهم يقاتلون ويذبحون بعضهم بعض، ثم يحتسون النبيذ العبري، ويعاشرون وصيفات زوجاتهم، هذه القصص أثارتني للاستمرار في القراءة.
في هذا الجزء من الفيلم، يمكن فهم علاقة المتطرِّف بالدين، ما الذي يجذبه إليه؟ وكيف يتأثر شاب عنيف وفاسد وغارق بالملذَّات بالدين، وبأي نصوص الدين يتأثر؟ وهنا سنجد أن تأثُّر أليكس بالكتاب المقدَّس كان انتقائياً، لقد تأثَّر فقط بالأجزاء المتمحورة حول المعارك والقتل والدم، والجنس في العهد القديم، ونفرَ من العهد الجديد، ومن حديثه الوعظي المكرَّر عن المحبة والسلام ونبذ العنف.
ومثلما انتقى أليكس ما يبحث عنه وما يحتاجه، وما ينسجم مع ميوله ورغباته (العنف،الجنس)من الكتاب المقدَّس، ينتقي المتطرِّفون ما يريدونه، ما يحتاجونه، ما يرغبون به من النصوص الدينية، فيختزلون الدين بالنصوص التي تتحدث عن القتال، ليخلقوا نسقاً ضيِّقاً منه، يحصره في القوة والعنف الشرعي والحرب المقدَّسة.
ما يجذب المتطرفين إلى الدين، هو ما جذب أليكس إليه، لا النصوص التي تنهي عن القتل، وتعتبر قتل نفسٍ كقتل الناس جميعاً، ولا النصوص التي تدعو إلى السلم، بل تلك التي تدعو إلى القتال والحرب، وهي نصوص جاءت في سياقات زمانية محددة، لا يمكن فهمها إلّا بفهم تلك السياقات، لكن المتطرِّف لا يعقِل ذلك، فهو يرى معتقده فوق التاريخ، وهو ما كانَ ليؤمن به إلّا لتضمُّنه تلك النصوص، لأنَّه مثل “أليكس” وكل متطرف تتملَّكه إرادة العنف، وجد ضالته في العنف الديني.

تمام علي بركات