ثقافة

بطرس في الأربعاء الثقافي: سورية مازالت تقدّم الجمال والإبداع

تفعل السينما فعلها في إعادة صنع الحياة ضمن إطارها التقني وبأدوات توقد الحياة ثانية على شاشة بيضاء، تُعيد خلق مفردات الحياة الجمالية وعناصرها المنتجة للدهشة والنور، موسيقا وصوت وألوان وأناس في حيز من الزمان الساحر، إنها السينما ترصد الفنون التشكيلية في زمن روادها وزمن جيل الحداثة اللاحق، جزء من سيرة الفنون التشكيلية السورية، وسيرة عدد من أسمائها المبدعة: ميشيل كرشة ومحمود حماد وفاتح المدرس ومحمود جلال الذين عززوا جيل الستينيات والسبعينيات بالحاضر، ومن بعدهم محمد غنوم والراحل نذير نبعة.
في فيلمه التسجيلي الأول “همسات وحجر” الذي عُرض في ندوة الأربعاء الثقافي، بحضور عدد من التشكيليين السوريين، قدّم المخرج السينمائي ريمون بطرس فيلمه الذي أنتجته المؤسسة العامة للسينما، ليكون فيلماً تعريفياً تسجيلياً واحتفالياً بالفن التشكيلي السوري وبالهوية الوطنية لهذه الفنون، واعتبر المخرج بطرس أن هذا الفيلم أنتج بعين المحب لهذه الفنون ليقدّم لجمهوره وليمته البصرية القائمة على دهشة الفنون التشكيلية، فمرسم فاتح المدرس في تسعينيات القرن الماضي لم يكن مرسماً عادياً، ولا الفنان المدرس فناناً عادياً، فالصورة الملتقطة لعينيه المتقدتين والممتلئتين بهاجس تطوير اللغة التشكيلية وتبسيطها وتعميق دلالاتها، مستنداً إلى ثقافة عمرها آلاف السنين أنتجتها هذه البلاد، وحمل الفنان الراحل وخز قسمات فقرائها وحمرة تربتها وصمت حجارتها وسهولها، على وجوه الفلاحات والريفيات وعلى ثيابهن المزركشة بالفصول.
لغة الفيلم هي لغة الصورة الكثيفة والعميقة حينما يقطّع المخرج هذا الديوان الشعري المرئي إلى مشاهد تفصلها لوحة بيضاء تنسكب عليها ألوان وموسيقا الفنان رعد خلف، الذي رافق الصورة البصرية بموسيقاه التصويرية ليضفي على المشهد بلاغة وسُلطة.
تفعل السينما فينا العجائب، تمتعنا وتضحكنا وتبكينا وتجدد ذاكرتنا، هذا ما يمكن أن نقول عن الفيلم الأول الذي عُرض.
الفيلم الثاني “أنغام الخط الشامي” بموسيقا الفنان سمير كويفاتي التصويرية، مؤكداً أن سورية ما زالت ترسم وتنتج جمالاً، هذا الفيلم ينتقي مجموعة من الفنانين السوريين المشتغلين بالخط العربي والحروفية: محمد غنوم، وليد الاغا، أكسم طلاع، عدنان الشيخ عثمان، نذير نصر الله، جمال بوستان وغيرهم من الفنانين الذين استلهموا الخط العربي ووظّفوه في أعمالهم التشكيلية، حيث التصوير في مراسم يخطون حروفهم ويتحدثون عنها وعن عشقهم لها وعن أصالتها وهويتها وطاقتها البصرية، يقدّم كل فنان نفسه بحديث وجداني أمام الكاميرا التي تسلّط أضواءها على أدوات الفنان وتعتني بارتجاف القصبة بين أصابعه.
يُعد هذا الفيلم من الأفلام الوثائقية التي أنتجتها المؤسسة العامة للسينما، وخطوة هامة تقتضي خطوات تتبعها للحفاظ على الذاكرة التشكيلية السورية، وتقع هذه المسؤولية على وزارة الثقافة واتحاد الفنانين التشكيليين وباقي الجهات الرسمية التي تُعنى بالشأن الثقافي، خاصة وأن العديد من الأعمال الفنية تتسرب إلى حيث لا ندري، فضلاً على فقدان بعض المراسم نتيجة الحرب.
وبالعودة إلى محور الندوة الذي تناول تجربة المخرج ريمون بطرس وعلاقته بالفن التشكيلي معززاً ذلك الاهتمام بالأفلام التي عرضت، يمكننا وبإيجاز إلقاء الضوء على ما ذكره المخرج عن تجربته الفنية وشغفه بالسينما وفنون الصورة، فقد درس السينما في الاتحاد السوفييتي بعد حصوله على منحة أكاديمية لدراسة الهندسة المدنية هناك، لكن معشوقته السينما دفعته لتغيير خياره الأكاديمي، وبعد سنوات من تخرجه عمل في دمشق لسنوات في أعمال البناء ونحاتاً للحجر، ويذكر المنطقة التي عمل فيها بالتحديد والقريبة من حي البرامكة في دمشق.
المخرج ريمون بطرس من أهل الفنون التشكيلية في مدينته حماة، حيث مارس هذه الهواية مع بعض فنانيها، وقد روى في حديثه أن خصوصية الفن التشكيلي في التجربة المفتوحة على التجريب وصولاً لصيغ جديدة في اللون والضوء والظل والنور، وهي مقدمة لتلمّس ابتكار الصورة وتجسيدها للحالة والموقف والفكر.
يمكن القول: إن عائلة الفنون الجميلة حين تتقارب القنوات فيما بينها على يد مبدعيها، فإنها تُساهم في خلق الصف العريض اللائق بما ينبغي أن نصل إليه من أهداف تخص المجتمع والفرد والحياة عامة، لنجعلها أكثر لياقة وأجمل لتدوم وتُعاش.
وقد قدّمت مداخلات من الفنانين التشكيليين في الندوة أغنتها وأضافت إليها، تمحورت حول مواضيع مثل مرجعية النص وجودة الإعداد للمادة النظرية لأي عمل يتناول التشكيل، وتوظيف الموسيقا المناسبة للوحة والمرسم، وصولاً لتحقيق التكامل في المشهد السينمائي خصوصاً حين يتناول الفنون التشكيلية لما للمادة من سحر.

أكسم طلاع