في أعيادهن ألف شمس مشرقة
هو العيد فحسب من يأتي على ذكرهن، لكنهن العيد بذاته حينما يشرق في كل الصباحات السورية، من تنور الأصابع ليصنعن أرغفة الإيمان، إلى دعائهن لمن وقفوا على الثغور أحفاداً وأبناءً وأزواجاً. فكيف يأتي العيد إليهن وهن العيد، في طلقة صباح حينما تودع أم المقاوم، مقاوماً سيعود مزنراً بخيوط الشمس، ظلاً مضيئاً لأيام أخرى، الجميلات هنّ من نسج الصباح من ثغورهن –ذات رعشة- أغانيه الوارفات، وبقين هناك في المسافة ما بين رعشة القلب وورد نزفه، على ثرى لم يكن إلا سورياً كما هي حكايته في البدء.
يحق للسورية أن ينتبه العالم لها، وهي من تجترح الآن ومن قبل ثقافة الحياة، فهي تراتيل عيدها، ألم تحمل زنوبيا حجر الشمس، لتبني صرح حرف ما يزال قطعة الفسيفساء في معمار سورية، ألم تصدح مريانا مراش في صالونها الأدبي بأنه آن لنا أن يكون تحت الشمس مكاننا، وفي رُقم أوغاريت لم يكن الحرف أنثوياً صرفاً بقدر ما كانت أصابع من كتبته، أصابع بشر حالمين، بأن المرأة حينما غرست الأرض زيتوناً وصيرته زيتاً مضيئاً، هي ذاتها من كتبت العيد قبل العيد، وتضرج وجودها بضوع حضارة كانت ولم تزل ما بين الحرف والميلاد والفدائي والحياة، لا نستعير أعيادنا لأنها فينا طوق النهارات الأزلية، كما في لوحها المحفوظ، أن تغدو على ذُرا الشموس.
يحق للسورية أن تقول للعالم كله: أنتم من انتظرتم أن نبثكم أعيادنا الجديدة في دورة حياتنا، وعلى العالم أن يصغي لأنوثة الحضارة، منذ لامست أصابع عازفة عتيقة، خشب الزان لتبث لحناً عابراً للغات والأزمنة.
في عيدها إنسانة ومقاومة وسادنة علم ومعرفة، تكاد اللغة أن تلتفت إليها في دهشة جديدة لعلها دهشة انتباه تواتر في صحائف الأرض ولم ترفع الأقلام منذ أزل الحكاية السورية، السورية.
ليس عيد ما نستدركه الآن، بقدر ما هو احتفال دائم بوجودها، فهي أم الحكايات السورية في لحظتي الموروث والمعاصرة، هي من ألهمت الكلام ليستعيد حرارته، ويدلف إلى السر المركوز في السرائر، فهي شرف المناسبة لا المناسبة فحسب وفضاؤها المنتظر دوماً ما هو أكثر من الكلام، ما هو أبلغ من الإطناب على عجل، فهو رحلة إلى أقاصيها وتخومها، لا سيما حينما نستقرئ بدلالة لحظتنا السورية الفارقة، كم إننا مدينون لها، ولمراياها الطليقة التي كثفت الضوء ليصير عطراً ولحناً أبدع الحياة ومازال، ورتل من القلب كل آياته، حينما تغار النهارات منها، فهي من تُكنى بها وتُعرّف بها لتكون كقيامة الأرواح في سدرة المنتهى، لأنها كذلك فهي البدايات والنهايات وواسطة العقد في كل ما يذهب إليه الكلام، وحينما تتماهى الحروف بنسيج باذخ التشكيل، تكون هي كثافة الاسم: سورية.
إذن أنتن العيد الذي نشهد أنه لم يمر سريعاً ومنخطفاً إلى النسيان، أو إلى ذات طقوس، لأن المعنى أبعد من استحضار، ولأنهن من كان المعنى يليق بهن، مكللات بإكليل غار قده الأجداد من أزل الحكاية، ومازلن يرفعنه على شغاف القلب، فكل نبضة فيه إشراق لهن ليأتين في تمام الحكاية-ضميرها، وأكثر «من دال فاخر» ما يليق بهن.
في أمس الحكاية كما غدها، مازالت المرأة السورية مبدعة أينما توضّع وجودها، فقط للرؤية أن تماثلها احتفالاً واحتفاءً، حتى تظل الأرقام محض أرقام، فثمة من يحلم بهن غد ابتدأ منذ حقب مديدة، ومازلن اللحن الأعلى في سيمفونيته، كذلك الأرض تتماهى بجذورها، لتحتضن السماء سلاماً، ففي أعاليها-السماء- من أدركت قبل فوات الكلام، بأن الأرض تستحق من مشين عليها، أن تكون جنة، فائض فتنة لا تنتهي، وفائض بوح لا يستنفد.
وحسب الخطاب في هامش الحكاية، أن تدله كل مفرداتها عليه، لأنها انتباهته لمن ظللن إلهام الوجود.
أحمد علي هلال