ثقافة

“جمر اللحظة” وفراشٌ ينوس بالرّهافة من أيّة لحظة مؤرّثة ستصعدُ أيّها الشاعر، الرّافل بالرّشاقة التعبيرية؟ وعلى أيّة قمّة ستهدلُ بإرثك الثريّ؟

الشاعرُ محمد زينو السلوم، في ديوانه “أصعدُ من جمر اللحظة” يتوقُ الصعودَ من جمرٍ، من طهرٍ، من اغتسالٍ بالنار، يبحثُ عن لحظة تحققُ له هذه الرّغبة، ليتخلص من كلّ ما يُعيق، حتى أصبحت هاجساً، فكيف ينزع الوقت المأزوم، وآهات نزفٍ، وقيود؟ كيف يصلها تلك القمة/الحلم؟! وهل غيرُ الشعر يستحيل طائراً، موجاً، إعصاراً ويحقق ما يشتهي؟! وهل قصيدة واحدة تكفي؟.
يهتمّ الشاعر باللحظة التي تتخلّق فيها القصيدة، يقتنصها كصياد ماهر، فتبدو مطواعة له، ترضخ لحلمه فتخاصره، وتوتر كوثر لونه بالبياض، حيث ينعتق من حنجرة نزفه:
“أقتنص اللحظة/ كي أتخاصر معها/ لكن الرّوح تزنر وقتي/وتحاصرني/لا أدري كيف تدثر كوثر لوني..”.
إنّها الرّغبة في قطاف ضوء جديد تهفو إليه الرّوح اللائبة، والتي تشبه الشرفات العطشى للضياء.
إنه “تصاعد للرّوح يأبى الانطفاء”. وهل ينطفئُ الجمرُ؟!
الشاعرُ اللاهفُ لا يتركه يصل هذه المرحلة من الموات أبداً، ينتقلُ به من قصيدة إلى أخرى، فتارة تهفو روحه إلى الأعالي للقبض على اللحظة، ليست أية لحظة!  إنها لحظةُ شعر تؤرّث قصيدة، وتارة تستحيلُ قصيدته امرأة يخترقُ حبّها الصمت والصوت، ليلبس كلّ الجهات، وإن رمحت بعيداً يناديها، وقد هيّأ لها أسباب الوصال، وأوقات الاشتعال، ويرجوها أن تشرئب أكثر وأكثر:
“تعالي، وخلي الرياح/تهبُّ على النار/تصعدُ، تعلو بقاماتها/للسماء/وخلي احتراقك يطغى على الحلم”.
وما هذا الارتقاء بالحبّ، بالمرأة، بالقصيدة إلى قمّة الوجد إلا ليحظى الشاعر بنشوة انتصارٍ، وليتخطى ما فات. هذا الصعود المرتجى أبداً، لم يتأتَ بسهولة كما كنت أظنُّ حين أقرأ قصيدة له، على الرّغم من سلاستها، ورشاقة خطوها، إذ تخطو كامرأة متبرّجة، خطوات هادئة، ناعمة، لا نجدها تُتعب نفسها فيها.
لم أكن أدري أنّ هذه المرأة/القصيدة قد وقفتْ زمناً أمام المرآة، لا لتتبرج، وتحسنَ زينتها، وترتدي لغة رشيقة، زاهية الألوان، كثيفة الإيحاء، مفعمة بالعاطفة والدّهشة فحسب، وإنّما لتحاور ذاتها، وتلقي بأسئلة إلى داخلها العميق، فثمّة نقاط فيه لم تستطع المرايا أن تكتشفه بعد. وعلى الرّغم مما تبديه من مهرجان احتفاء باللون، ومن رقص وغواية، بيد أنها أيضاً لاتني تفرد بعض الحزن الذي لايفارق صاحبها.
“قصيدة عشق أدخلها، لا أخرج/منها/دائرة تكبر، تكبر وتهدّ كياني/يبقى الجرح ويبقى النزف/ويبقى الدمع بأعماقي..”.
هذا الجرح الذي يواريه بجمال عبارته، وعشقه الكبير، لا يمكن إلا أن يفضحه، وهل غير المبدع ينقذه الإبداع مما يلمّ به من ألم وجراح؟ّ.
فالشاعر يلقي بالجمال على البياض، فتأتي ألف فراشة تنوسُ برهافتها، وهذا الجمال لم يكن خالياً من قلقٍ، أو حلم، أو قضية تؤرقه فحسب. وإنّما ثمّة فكرة كانت، فاستحالت رؤية. فمن خلال قصيدته الرشيقة، تدرك قدرته العميقة على تضمين ما يخصّ الإنسان، وما يخبّئ وراء هدأته من تمرّد، ليكون مواكباً للبشر والعالم وأشيائه، وللطبيعة، فهو الإنسان المعذب، إنْ فردَ آلامه  فإنها ستغطي الأرض.
“تحت ظلال الشعر فرشتُ/همومي فامتدت / تتوزع فوق الأرض، وتحت الأرض
لا تسقي الأرض العطشى، لكن /تشبعها أوجاعاً حبلى بالآلام..”.
يحاول الشاعر السّلوم مع كلّ  سكينته البادية، التي يتسربل بها، أن يرفع صوته بألم، مستمداً من تجاربه غير القليلة، لتهزّ مشاعرنا، تلامس خلايانا، فندرك على الفور مساحة التجربة التي عاشها، ومع ذلك فإنه في أقصى ألمه يبقى صاحب عبارة شعرية مفعمة بالعاطفة، والحنوّ، مكتظة بالرّموز والإيحاء، هذه الشعرية تجعل بقاء كلامه بعيداً عن الكلام المجاني، حيث يمنحه اسماً جديداً، وضوءاً جديداً يصبو لقطافه. فالشعر لديه “من حيث الكلمة يتجاوز نفسها مفلتة من حدود حروفها، وحيث الشيء يأخذ صورة جديدة ومعنى آخر..”. فهو شاعر الصحوة المواربة بفعل الحلم، يتوارى به وفيه، كصرخة وراء موجة.

نجاح إبراهيم