ثقافة

متاهة الغربة والضياع

في رواية كامراد “رفيق الحيف والضياع” تبدو معاناة الأفارقة سكان القارة السوداء على اختلاف انتماءاتهم الدينية والمناطقية،  قدراً من التشابه والتماثل نظراً للبيئة المتماثلة في الحروب والأوبئة والأمراض الاجتماعية، لذلك كان الهروب والهجرة غير الشرعية هي الصورة الأكثر بروزا في المشهد الذي يرصده الروائي الصدّيق حاج احمد في “كاماراد- رفيق الحيف والضياع” التسمية المأخوذة عن الفرنسية لتداخل المفردات الهجينة في التعبير عن القاسم الذي يجمع جمهور الشباب المهمش والتائه والباحث عن فرصة حياة ما، وهو يغامر ويقامر بروحه عبر صحراء قاحلة ودروب غير واضحة وسط ظروف تفتقد لتتوافر أدنى  شروط العيش الإنسانية.
“ماميتو” صاحب التجربة مع رفقائه يروي للمخرج الفرنسي جاك بلوز تفاصيل تلك الرحلة التي استنزفت المورد الأساسي المعيل لأسرته ببيع البقرة “كاباتو” لتغطية نفقات السفر، الحكاية التي تشكل جسم السرد الذي اتبع في الرواية للدخول إلى عوالم الشقاء والبؤس، وشظف العيش الذي رافق مجموع المهاجرين من بعض البلدان الإفريقية..كاميرون- نيجر- ليبيريا- السنغال – مالي وغيرها، عبر محطات لا تقل عن سابقاتها في الظروف السيئة ونمط المعيشة المتدنٍ، حيث يتجمع المهاجرون في غيتوات معزولة وبعيدة عن المراكز العمرانية في بؤر متشابهة عبر محطات انتقالهم حيث اليد العاملة الرخيصة، كما تنتشر النشاطات الممنوعة مثل ترويج العملات المقلدة “تزوير عملة”، وتهريب المخدرات طلباً للثراء السريع الذي يؤهل للانتقال إلى مستوى أفضل للحياة، حيث التحدي الأكبر هل الحياة الرغيدة مقابل التخلي عن القيم والأخلاق هي البديل الوحيد المتبقي لفاقدي الحياة الطبيعية.
صورة بصرية سينمائية تلتقطها الحواس الخمس، يلتقطها الزيواني وتبدو بمثابة خشبة نجاة للمخرج الفرنسي الذي يروي له الحكاية بعد تتالي خيباته في انجاز فيلم متميز ينافس للحصول على السعفة الذهبية من خلال وصف دقيق لرحلة العذاب ومشقات طريق الاغتراب، لينجح بعضهم ويفشل الكثيرون، ومنهم مامادو صاحب الحكاية، وقد اقترنت خيبته إبان الرجة الكبرى في المرحلة الأخيرة من الرحيل  بفقدانه التميمة المعلقة في صدره كتعويذة سحرية، لها فعل عجائبي في إنقاذه من المهالك، ولربما كانت إيماءة من المؤلف لرصد الخلفية الغيبية التي يفكر بها أهل المنطقة، التي ابتليت ببعدها عن العلم والمنطق في تفسيرها للحدث والظروف المحيطة، والتي تضاف إلى الحصار الحياتي المكثف الذي يحياه إنسان المنطقة، ترجمتها العبارة التي يكررها في أكثر من موضع “الرجوع ليس سهلاً..الوصول للفردوس ليس سهلاً.. البقاء هنا ليس سهلاً” البقاء ليس سهلا حيث الأوبئة والحروب تفتك بالمئات، ولا أمل يُرتقب ولا رجاء، وطريق الهجرة محفوف بالمخاطر ومحمول على أكف الصدفة، ومن يبدأ هذا الطريق ليس سهلاً أبداً الرجوع إلى ما كان. هي شبكة خانقة تطبق على هؤلاء التعساء ليطغى السواد بشقه المعنوي على كامل حياتهم، وإن كان أتى على لسان المخرج تصور لحل خيالي يفتقد لتحليل الظاهرة في عمقها (لا حل إلا بخلق فرص نشاط لأولئك المتعبين  ترسخهم في بلدانهم وتثبتهم في أوطانهم) هذا الكلام رغم طوباويته يدعو للتفكير جدياً في مشكلة اللجوء والهجرة، وهذا المخاض الطويل ربما كان يحتاج دراسة متأنية للواقع والظروف المحيطة، وتبيان الجهات المستفيدة من استمرار هذا النزيف لطاقات بشرية مهدورة رغم ما تحفل به أوطانها من ثروات دفينة.
الرواية تطرح أزمة حية  لما تزل قائمة بتناسلات متشابكة ومعقدة، وتضيء على واقع مازال قائماً لعل إثارته وفتح عدسة كاميرا الأدب عليه بداية للتفكير في الأفق المفتوح للازمة.. لعله ثمة نور في نهاية هذا النفق..

دعد ديب