ثقافة

تغير ثقافة الشراء في سورية .. أجيال تكبر في البالة

هذه ليست “بنايات” إنها نيويورك! بفخر واستخفاف بثقافتي وضح البائع عندما أعجبت بالرسوم على الفستان hgr’kd المعروض في الواجهة، وأضاف يشرح ميزاته “هذا لايوجد منه سوى قطعة واحدة أخرى” أي أنني سأتميز بالحصرية كنجمات هوليود لو اشتريته ولن أصادف أخرى ترتديه، كل هذا ليبرر ثمنه 4500 ليرة والذي وجدته باهظا جدا لأنني اشتريت فستانا مشابها بألف وخمسمئة ليرة لكن قبل الأزمة، أما الصدمة الكبرى أنني كنت أقف في محل “للبالة” أي ألبسة مستعملة، أو أوروبية، عندها ناولته إياه وخرجت مسرعة ومبتعدة قبل أن يراني أحد!.
غشتني واجهته وموقعه على أتوستراد الزراعة في اللاذقية، وللأسف أن أغلب المحلات أصبحت للألبسة المستعملة، ولكل شيء مستعمل حتى ألعاب الأطفال التي نراها مكومة في سلال وسط الشارع ويا للأسف، وبعد أن كنا نخجل من دخول محل البالة أو أن يصادفنا فيه أحد نعرفه، وبعد أن كان بلا لافتة أصبح له اسم يلحقه بفخر “ألبسة أوروبية”، أما مبرر الأسعار الباهظة أنهم يشترونها باليورو والدولار!.
أسعار البالة خيالية اليوم لأنها مطلوبة وليست كالسابق، وأصبحت تتكلم بوقاحة، وتتصدر السوق، بعد أن كانت تتخفى في الزواريب والمناطق المعتمة. والسبب أن واجهات المحلات المحترمة والتي ما زالت صامدة بضاعتها قديمة، ومن أنخاب متدنية، يبدو أنها نبشت من المستودعات التي كانت ترمى فيها “الفضلة”، وبنفس الوقت أسعارها خيالية، لأن أغلب المعامل أطيح بها في حلب وريف دمشق.
منذ سنوات كان النخب الأول السوري يصدّر والثاني تتوجه به الماركات المرموقة التي تتحنن في نهاية كل موسم بالتنزيلات على موضة العام الذي انتهى بأسعار بخسة جدا، فنشتري ما نحتاجه ولا نحتاجه بل وكنا نهدي ونشتهي لبعضنا الألبسة، وكانت المحلات المتراصة في الأسواق الطويلة في دمشق على سبيل المثال، تتميز باختلاف بضاعة كل واجهة عن الأخرى لاختلاف المعامل والمصادر، فكان التسوق بمثابة نزهة إضافة إلى التجدد النفسي والروحي الذي يكسبه شراء القطعة الجديدة لصاحبها.
أما اليوم عندما تصدرت البالة وأصبحت خياراً فالموضوع أخطر مما نتصور، لأنه دليل على تحول ليس فقط في سلوك المشتري وإنما في أفكاره واتجاهاته التي أدت إلى هذا السلوك، وينذر بعدة تنبؤات، أنني بقصدي إلى البالة حذفت عنصر تعدد الخيارات والمقاسات وهذا هو القيد بعينه لأن الحرية الحقيقية تكمن في الاختيار من متعدد، ثانياً دخلت في انتهاز الفرصة بالحصول على قطعة مقبولة من بين ما هو غير مقبول سابقا لأنه مستعمل، فما بالنا بثالثاً عندما يرتدي شعب بأكمله ألبسة شعب آخر، أليس هذا اعتراف بأننا أدنى مستوى من باقي الشعوب، ألسنا جاهزين عندها لقبول أي فكرة، أليس هذا هو الاحتلال بعينه، إذا أنا تغيرت خلال سنوات، قيمي كلها كشعب وصرت أرضى بالقليل لأعيش فقط وليس لدي أي متعة أو طموح.
دعونا نتمسك بثقافتنا الشرائية ولا نخضع للظروف، ولنكتفي بما لدينا في بيوتنا وخزائننا، أو لنشتري الجديد الرخيص في التنزيلات وما شابه، لأن الحاجة إذا بدأت تغير الأفكار وبالتالي القيم ومن ثم السلوك، إذاً نحن تحت احتلال فكري هذا إذا لم يكن إعدام فكري تام.
ليس الأرخص هو الأفضل دائما، وليست كما يقول المثل مداعبا “الفضالة للفضيل”، هناك أجيال جديدة ستكبر في أثواب بالية ولن تعرف فرحة الجديد، ولا حرية الخيار، وستبني أولاد اللحظة، والقرارات العملية البعيدة عن القيمة والمبدأ.
حلا خيربك