ثقافة

القراءة في أفقها المعرفي

أحمد علي هلال
لا يمكن الاطمئنان إلى أن القراءة وبالمعنى التقليدي ستُنتج دالها المعرفي، إذ بوسعنا هنا أن نغاير لنقول، وجرياً على ما استقر في الذاكرة، أي أنها تراكمية وهذا ما ينفي بالطبع القراءة الأفقية والتي لا تعني إلا عبوراً مجانياً في الكتابة وبأشكالها المختلفة.
وعلى الأرجح، أننا هنا لسنا بصدد استقراء نظريات القراءة التي مجّها الدرس المدرسي، وهي لم تُفضي سوى إلى محو أمية بعينها، سوى الأمية الثقافية التي أصبحت وكأنها قدراً لا يُرد، أو ترانا في سبل مناهضتها نذهب إلى أكثر مما نحلم به ونتوسل.
وبهذا المعنى، فإن القراءة وبتأصيل النظرة إليها مع تغير مواضعات تلك النظرة، سوف تحيلنا إلى فحص أنساق ما نقرأ، وهذا بفعل التغذية الراجعة سيترك نوعاً من التغيير المنشود، وما تحدثه القراءة ليس في الأثر القريب فقط، بل في الأثر البعيد، حتى تصبح القراءة ذات جدوى في حقولها المعرفية من الاكتشاف إلى الرؤية إلى المواقف مروراً بوصفها قراءة فاحصة،  تحاورنا كما نحاورها، لننتج موقفاً نقدياً مما نعرف ومما لا نعرف، وأكثر من ذلك فإن أفعال القراءة، وبالمعنى المعرفي بالذات، هي من تُسفر عن فرادة التأمل، وفرادة الذات القارئة بوصفها منتجة للمعنى وشريكة له بآن معاً.
وعلى سبيل المثال أن تقرأ رواية بعينها، فأنت لا تذهب إلى الوقوف عند مقولات ذلك  العمل الروائي -على أهميتها من عدمها- بل تذهب إلى غواية اكتشاف رؤية الكاتب والتي يبني عليها متخيله الروائي، وهي رؤية تدعو إلى الحوار مع الذائقة والفهم والإدراك، وصولاً إلى صوغ موقف سيعبر عنه أولاً بالمتعة، ومن ثم بمتعة المعرفة، وهما شرطان لازمان في كل قول إبداعي تخصبه القراءة ويخصبها أيضاً.
ولعل المسألة في التلقي الموسيقي ستكون أكثر خصوبة، لأننا نتقصد الوقوف على ما يعيننا على أسلوب الحياة، والتنفس عبر فضاءات اللحن، كما الكلمة، والصورة، في هذا العالم الضيق بقدر اتساعه، والواسع بقدر ضيقه.
عالم يحتفي بالصورة بوصفها كلمة، وبالكلمة بوصفها صورة، ولعل الفلسفات جميعها، أو في أغلبها الأعم، قد  استشرفت في مسألة القراءة غير بعد يتصل بالكينونة، ويتصل بإنتاج الوعي عبر أشكال وتعبيرات إبداعية وحياتية، فلا نذهب إلى إنتاجية القراءة في –هذا السياق- إلا  بوصفها إنتاجاً لوجود آخر وتجل أخر، يعكس تلك الحيوات الضاجة بالحياة، لتصبح اتصالاً بحياتنا الراهنة، اتصال يعني أننا في هذا العالم نشتق من يمتد إلينا عبر الذاكرة وعبر الزمن، لنحاوره بلغتنا، إذ الزمن هو قارئ أيضاً، وإلا فما المعنى من بقاء مدونات بعينها ملء ذاكرتنا الثقافية، واندياح أخرى قد يطاولها النسيان، فأن نبني مجتمعاً قارئاً يغذ الخطا في دروب المعرفة الشائكة، أن تبني مجتمعاً عارفاً بقيم التغيير المتصلة بالوجدان فردياً وجمعياً، والمحمول على قيم الاختلاف الجميل، لا التشابه المرذول، وهنا تأخذ القراءة بوصفها حدثاً وظاهرة وأسلوب حياة جلَّ تعبيراتها، وأدّلها استعادة الشرط الإنساني، بوصفه تجل للشرط المعرفي، وهذا ما يعيد الاعتبار لترتيب بيت الكينونة الإنسانية، وإلا ما الفارق النوعي بين مجتمعات تقرأ وأخرى لا تقرأ، أي لا تعرف، أي لا تمتلك القدرة على أن تغير بذواتها، قبل أن تغير في مجتمعاتها، وتُقصي اكراهات شرطها الإنساني، لتصبح القراءة هوية ومنظومة لا يمكن تجزأتها أو تسطيحها أو ابتذالها،ـ بل يمكن الاحتفاء بتعددها النوعي، تعدد الأفكار وخصوبتها، لتصب روافدها في نهر الحياة الخالد، وتصبح سيمفونية الشمس التي لا تغيب عن أرض الفكر، وحرارة اللغة التي ما لم تصبح انتماءً، لن تصبح هوية الإنسان المعاصر.